الخميس، مايو 16، 2013

عـن الثـــورة والمعــذبـيــن ..،،





تكاد الثورة أن تكون نوعاً من القيامة.
 ولهذا فإنه ليس غريباً أنه لم يبقَ فى ذاكرة السيدة "سوزان أوسينجا" - التى أُتيح لها معاينة جثمان "جيفارا" بعد أن حمله قاتلوه إلى المستشفى الذى كانت تعمل به آنذاك - أن الكثيرين من فقراء الفلاحين والهنود فى بوليفيا (التى أُعدم الرجل فى أحراشها) لا يزالون إلى اليوم يقيمون القداس على روحه، وهم على قناعة من أنه يحقق المعجزات.

وبالطبع فإنه ليس لذلك من دلالة إلا أن يكون "معذبو الأرض" فى جبال ووديان أمريكا اللاتينية قد راحوا، فى تلك اللحظة المشحونة بالألم والمعاناة، يتبيَّنون فى وجوه ثوارهم ملامح الأنبياء والقديسين، ويقرأون فى تضحيات وعذابات هؤلاء الثوار الأسطوريين - الذين جادوا بأرواحهم من أجل تخليصهم من البؤس والشقاء - معانى الفداء والخلاص والقيامة وغيرها من مفردات اللاهوت الكنسى التى طالما سمعوا بها فى دروس قدَّاس الأحد، ولكن من دون أن يعاينوها فى قلب تجربة متجددة حيَّة، يستشعرونها ويحسون بها متَّقدة ونابضة. ولعله يمكن القول بأنهم قد استعادوا - مع هؤلاء الثوار - تجربة مسيح الناصرة المصلوب على الجبل، وكذا تجربة ذلك الطابور الطويل من الشهداء الذين عاشوا "الدين" كتجربة ومعاينة، وليس كمجرد معتقدٍ بارد يحفظونه ولا يملون من ترديده من دون إحساس أو معاناة. وإذن فإنه قد جرى استقبال "الثورة"، من جانب هؤلاء المعذَّبين، على أرض "اللاهوت" وبدعمٍ مباشرٍ منه، وليس فى قطيعة معه، وذلك على عكس ما جرى فى تجربة أوروبا التى تكاد عبارة أحد كبار صُنّاع الثورة فى فرنسا "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس" أن تشير إلى أن العلاقة التى عرفتها بين اللاهوت والثورة، تختلف كلياً عن تلك التى سوف تعرفها أمريكا اللاتينية - بعد ما يدنو من القرنين - بينهما. حيث الثورة فى أوروبا هى ثورة على اللاهوت وضده، فيما هى فى أمريكا اللاتينية ثورة فى اللاهوت وبفضله. ومن هنا أن اللاهوت - وحتى الدين - لم يكن ليتحول فى أحراش أمريكا المُثقلة بالفقر والظلم إلى زأفيونٍ للشعوب، بقدر ما راح يستحيل إلى "صرخة" للمضطهدين الذين راحوا يطالبون، من خلاله، بخلاصهم على الأرض أولاً، وقبل خلاصهم السماوى البعيد. ولعله يمكن القول ترتيباً على ذلك بأن تلك التجربة الفريدة لأمريكا اللاتينية كانت هى التى أعادت الاعتبار لعبارة "ماركس" الشهيرة عن الدين، والتى طالما تعرضت للابتسار والتشويه المتعمد من كهَّان مؤسسات إنتاج التسلط والقمع.
إن ذلك يعنى أن فيالق "المُستعبدين والمعذبين" الذين أبصروا فى وجوه ثوارهم المغدورين ملامح الأنبياء والقديسين (الذين طالما أجهش هؤلاء المعذَّبون كثيراً بالبكاء لما يُروى، فى عظات ودروس الآحاد، عن موتهم الحزين) كانوا هم أصحاب البشارة بظهور لاهوت التحرير والثورة. ومن هنا أن هذا النوع من اللاهوت النضالى لم يكن أبداً من إلهام "المُنظِّرين والأكاديميين" بقدر ما انبثق من آلام "الأشقياء والمضطهدين". إذ الحق أن ثمة "حالة ثورية" أنضجتها ظروف البؤس والشقاء فى تلك القارة التى كان عليها أن تعيش فى ظلمة الاستعباد المزدوج لسيدين، السيد الكاوبوى فى الشمال، ثم وكلاؤه من الطغاة المحليين الذين تزدحم بهم قصور الحكم، التى ترفرف عليها رايات الاستقلال الزائف. وقد حدث أن تجاوبت تلك الحالة مع أشواق "المعذبين" إلى عالم أكثر عدالة وإنسانية، فاستقبلوها بما يليق من مفردات مخزون قدسى كامن، يرتفعون بأبطاله إلى مقام القديسين. ولعلهم كانوا فى تلك اللحظة التى لا مثيل لامتيازها وتفرُّدها يتنزَّلون بالقدسانى (المفارق) إلى رحاب التاريخانى (المحايث) الذى كان قد تعالى عليه على مدى القرون، ليصبح أقنوماً خالياً من أى إحساس وجودى نابض. فالمسيح المفارق والمتعالى (من "إنسان مُعذَّب" إلى "إله سلطة") كان يُستعاد من السماء التى رُفِعَ إليها ليقوم حياً فى تضحيات هؤلاء الثوار التاريخيين. 
ولعل الدلالة القصوى لتلك الرجعة (التى تبدو بمثابة قيامة جديدة للمسيح) تكمن فيما تحيل إليه من أن تحرير البشر من البؤس والشقاء هو بمثابة استعادة للمسيح من براثن الموت الذى حكم به عليه دعاة اللاهوت البارد، والذى هو - وبامتياز - لاهوت قمع وتسلط. وهكذا فإنه يمكن القول بأنه لم يكن البشر فقط هم الذين يتحررون، بل كان اللاهوت نفسه يتحرر من قبضة التفسيرات الجامدة والإيمان البارد البليد (الذى يتهكم عليه الأب "أوسكار روميرو" - أحد الأساقفة السلفادورين - بأنه يكتفى بحضور قدَّاس الآحاد، ويرضى بالظلم طوال الأسبوع)، وذلك لكى يستعيد اتصاله بالينابيع الحية لتجربة المعاناة المسيحية الأولى. فلقد بدا لهؤلاء اللاهوتيين المناضلين "أن الإدراك الحقيقى ليسوع كإنسان تاريخى متواجد فى المكان والزمان هو الذى يقودنا - على ما يقول ألويزيوس بييريس أحد أقطاب لاهوت التحرير، إلى البحث عن معنى العبادة الحقيقية. وهذا الإدراك هو الذى يقدمه لنا لاهوت التحرير، إذ يركز على المسيح الذى صار واحداً منا، مسيحٌ واقعى قلبه يدمي، مسيح جائع وعطشان وعارٍ ومريض ولا مأوى له وسجين بسلاسل القوانين الاجتماعية الجائرة. مسيح لا يجد مكاناً يولد فيه، ولا يجد مكاناً يُدفن فيه. مسيح يشكل خطراً على هيرودس فتعقبه ليقتله، مسيح مُفتَرَى عليه أمام المحكمة. مسيح مُعذَّب من قبل الشرطة. مسيح وقع ضحية التعصب والنفاق السياسى للكهنة". 
والحق أن هذه الاستعادة للمسيح كإنسان مُعذَّب لتشير إلى لاهوت يبنى نفسه خارج فضاء الإشكالية الكبرى التى حددت بناء اللاهوت المسيحى على مدى تاريخه الطويل، وتحكمت فيما جرى من انشقاق الكنائس والطوائف، وأعنى بها الإشكالية المتصلة بطبيعة السيد المسيح. وإذ يشير ذلك إلى أن لاهوت التحرير يستعيد مسيحاً آخر غير ذلك "المسيح" الذى تتعبده المؤسسة وكهنتها المفوَّهين البلغاء، فإن ذلك يعنى أن الأمر يتجاوز إلى "تحرير" المسيح نفسه من قبضة الذين لا يتوقفون عن صلبه، والذين - وللمفارقة - يفعلون ذلك على خلفية الثرثرة بتعاليمه ووصاياه (ولابد هنا من تذكُّر ما كتبه "ديستوفسكى" عن المفتش العام، الذى عاقب المسيح بالصلب من جديد حين راح هذا المسيح يفضح - مع ظهوره الرمزى المُتخيَّل فى أسبانيا على عهد ديوان التفتيش والمحارق - انحراف الكنيسة عن كل ما جاء يُبشِّر به من سلام ومحبة. وإذ يشير المجاز العبقرى لديستوفسكى إلى ما يمكن اعتباره مسيحية مغتربة عن نفسها فى أسبانيا المثقلة بعذابات المحكومين بالإحراق والموت بتهم الهرطقة والتجديف (وإلى حد إهدارها دم المسيح نفسه)، فإن هذه المسيحية سوف تتحرر من هذا الاغتراب، وتعود إلى ذاتها كدعوة للخلاص، على يد لاهوتيى التحرير فيما كان - وللمفارقة - جزءاً من ممالكها البعيدة عبر الأطلنطي). 
وإذن فقد بدا أن تحرير "الإنسانى" هو فى جوهره بمثابة تحرير "للسماوي"، وبما يترتب على ذلك من أن زوعياً ممسوكاً فى قبضة الوهم والخرافة هو قرين زوحيٍ تتحكم ممالك الاستبداد وطواغيت الأرض، فى آليات إنتاجه للمعنى والدلالة، وهو ما يلزمنا الوعى به (مسلمين ومسيحيين). 

تم النشر بجريدة الأهرام بتاريخ 16 / مــــايو /2013


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق