الثلاثاء، يوليو 19، 2011

قراءة في أزمة النخبة الفكرية المصرية بعد الثورة (3-3)



في الجزء الأول من الحوار،
 تحدث د. علي مبروك عن الخطاب النخبوي المصري - عبر توجهات النخب المختلفة – واصفا إياه بالضحالة البالغة في علاقته بالمفاهيم التي تحتاجها مصر في اللحظة الراهنة. ورأى أن التوجه الإسلامي يخلط الشريعة بالمدونة الفقهية. كما رأى التيار العلماني يعتبر الدين عدو للدولة المدنية بإطلاق من دون التفريق بين الدين كدين وبين الدين كدوجما تعمل على تحويل الاجتهاد الفقهي لمطلق رباني.
وفي الجزء الثاني،
 يتحدث عن مفهوم المواطنة ويقيم الأطروحات التجديدية فيه؛ والتي اعتبرها تقدم إشكالية جديدة. ويطور رؤية لمصدر إشكال الوضع الراهن في الحالة الإسلامية تتعلق بالفكر الاجتهادي الإسلامي المعاصر وطبيعة الثورة التي يقدمها على الإسلام التاريخي بدون تقديم قراءة في النصوص.
وفي هذا الجزء
يتحدث د. علي مبروك عن إرادة الاستقطاب كنتيجة لسيادة نمط التفكير الأيديولوجي وليس نمط التفكير المعرفي.
وفيما يلي نص الجزء الثالث من الحوار:
** التوجهات اليسارية والليبرالية اليوم.. لماذا ترى أنها يجانبها الصواب فيما يتعلق بالنظر إلى قضية مدنية الدولة؟
د. علي مبروك:
 المشكلة طبعا في عدم ضبط المفهوم مفهوم الدولة المدنية. فهذا في حد ذاته مشكلة؛ لأنه يؤدي بهم إلى أن يضعوا أنفسهم في عباءات وفي مواقف استقطابية حدية. فعندما أقول أن الدولة المدنية هي الدولة اللا دينية أو غير الدينية هذا الكلام يؤدي لمشكلات استقطاب حادة كالتي شهدها المجتمع المصر عقب الثورة.
لا بد أن نحدد إنه إذا ما أحل الدين نفسه - على الأقل الجانب المتعلق بالدولة- إذا ما فهمناه على إنه نفسه بنية مدنية فلن تكون عندنا أي مشكلة.

** كيف – برأيك – يمكن إدارة النقاش حول دور الدين بما يعزز من فهم وضعه في الإطار المدني؟
د. علي مبروك: 
لا بد من طرح سؤال الدين.

** بمعنى؟
د. علي مبروك:
 بمعنى أن نسأل ما هو الدين؟ وهو الكلام الذي ربما أشرت إليه في بداية الحوار بيننا عندما تتحدث عنه نعني به، ماذا يعني الإسلام؟ الدين بالفعل مدني رغم مصدره الإلهي. المشكلة في أن المصدر المطلق للدين يجعل الناس أيضا تصف الدين بأنه مطلق، فتجربة الوحي إذا تأملت فيها من مبتداها لمنتهاها ستجد نفسك مضطرا إلى الإجابة على سؤال ما هو المبدأ وراء التغير في الوحي إلى الحد الذي يجعل المصادر الإسلامية الكلاسيكية تتحدث عن عدد أنبياء وصلوا إلى 124 ألف نبي مقابل 313 رسول يحملون رسالات ووحي من السماء وشرائع إلى البشر؟ وعندما تسأل مثل هذا السؤال يرد عليك القرطبي في تفسيره لآية "ما ننسخ من آية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها" (البقرة: 106)؛ حيث يقول: إن الله يسلك مسلك الطبيب الذي يراعي حال مرضاه: بمعنى إنه بحسب مصالحهم الدينية والدنيوية يكون الخطاب، وبالتالي يصل الرجل في تفسيره لهذه الآية إلى أن الله علمه مطلق لا يتغير ولا يتبدل ولكن خطاباته تتبدل، ومن طبيعي أن نسأل: لماذا يتبدل الخطاب؟ إذا كان الله راعى أنه يخاطب بشرا تتغير أوضاعهم وتتباين ظروفهم وبالتالي راعى ذلك في خطابه مع البشر لماذا لا نسير نحن على هذا الدرب؟
وهناك ما هو أكثر؛ فلو قرأنا في سورة الكهف، ذلك الحوار العظيم بين موسى – عليه السلام – والخضر؛ عندما اسمع هذا الحوار واقرأه أقول إننا أمام إله يريد أن يقول للبشر "يا بشر افهموا اعرفوا أن الخطابات لا تفهم خارج السياق".
هذا يعني أنك بإزاء حالة تتغير وتتبدل باختلاف أوضاع البشر وتباين ظروفهم. وهذه هي المدنية. لقد مارس الله معنا هذه الطريقة؛ فلماذا لا نمارسها مع أنفسنا فاهمين وقارئين؟ فنرى كيف كانت المنظومات القديمة تتأسس وعلام؟ وكيف أنه من الممكن أن نغاير التأسيس؟ أم سيظل ثقل المنظومة القديمة يفرض نفسه؟ وأنا أخشى من الكلام المتعلق بأن الأوضاع الواقعية تغيرت، وبالتالي يجب أن نغير الأوضاع الفقهية ونقول ذلك ويتهيأ لنا إن هذا القول وحده كاف لحل المشكلة. هذا لا يكفي لحل المشكلة بسبب بسيط جدا: هو أن المنظومة القديمة تخلق بنيات ذهنية وعقلية تخلق بدورها طرقا في التفكير، وتظل هذه الطرق تعيد إنتاج نفسها حتى لو غاب شرطها الاجتماعي التاريخي: بمعنى أن الشرط الاجتماعي التاريخي قد غاب، ومع ذلك؛ فكثير من المحللين يرى مثلا أن آليات التفكير العقلية العربية المهيمنة والحاكمة لهذا العقل في معظمها حتى الآن آليات البداوة وآليات القبيلة الحاكمة في آليات اشتغاله. فالعقل لديه ميكانيزمات يعمل بها، ولديه طرق في التفكير يتمايز بها؛ بحيث تستطيع أن تمايز بها عقل جماعة حضارية ما عن عقل جماعة حضارية أخرى.
فبرغم أن القبيلة سقطت كبناء اجتماعي في معظم العالم الإسلامي؛ إلا أن غيابها من الفضاء الاجتماعي وحتى السياسي لم يحل دون استمرار اشتغالها على الصعيد العقلي ويجب أن نكون واعيين بذلك. المشكلة ليست في الدين، وإنما هي في ثقل منظومة قديمة فهمت الدين وتعاملت معه في هذا الاتجاه، وفهمت منتجها في سياق إطلاقي، وعلينا الآن أن نعيد الفهم مرة أخرى إلى السياق الإنساني المتجدد.

** إذا تحدثنا عن إن الأزمة التي تحدثت عنها بخصوص العقل العربي، والتي أدت في داخل المساحة الإسلامية إلى صراع حاد ما بين قلة مجددين وكثرة كثيرة تفتقر إلى هذا النزوع التجديدي، وهو الوجه الآخر من حدث الاستقطاب الذي تشهده مصر الآن ما الذي أنتجته هذه الأزمة؟
د. علي مبروك:
 قبل أن أتحدث عما أنتجته هذه الأزمة دعني أولا أتحدث عن مسألة القلة المجددة في مواجهة الكثرة الغالبة التي هي ضد التجديد؛ لأن هذا يجرنا إلى مراوغات كثيرة يجب أن نضع أيدينا عليها، ونكون واعين بها. ونحن لا نفعل ذلك أيضا في أوقات كثيرة.
المشكلة إننا رأينا في الإسلام - في لحظة من لحظاته المزدهرة اللامعة - إمكانيات هائلة للتعدد والاختلاف وتباين الأنظار. رأينا هذا كله، لكن لم نسأل ماذا حدث بعد ذلك؟ ونظل نستدعي هذه اللحظة وكأن مجرد استدعائنا لها يمكن يؤدي إلى إنتاجها؛ دون أن نسأل: ماذا حدث؟ ما الذي وأد التعددية؟ ما الذي وأد حق الاختلاف؟ ما الذي أدى إلى هذا الاختناق؟ هذا الوضع الذي يكاد يختنق به العالم الإسلامي.
ودعنا لا ننسى مفهوما مهما جدا علينا أن نشتغل عليه، وهو مفهوم النسق المهيمن، وعلينا كذلك العمل على حقيقة الهيمنة، فهذا النسق الذي هيمن ابتداء منذ هذه المسألة باعتباره أنه الوسط، لكن علينا أن  نفهم كيف تتحدد آليات الهيمنة وآليات السيطرة لنسق مع إقصاء واستبعاد أنساق أخرى. ولا يكفي وأنا جالس في هذه اللحظة في القرن الواحد والعشرين أن أقول أن في القرن الرابع الهجري كان عندي أو في القرن الثالث الهجري كان عندي كذا وكذا، وكأن استدعائي أو حديثي عن هذه اللحظة كفيل بإنتاجها في واقعي، فهذا يعني أنني لا زلت من أنصار العقلية السحرية التي ترى أنه بمجرد الكلام عن شئ فإن حديثي يؤدي إلى امتلاك وحدوث هذا الذي أتحدث عنه، وهذا لا يحدث بالتأكيد.
في مصر إلى الآن، لا أستطيع أن أتحدث عن إن هناك اجتهادات جدية مع كل تقديري واحترامي. لكن سيظل تقييمي كباحث وكدارس أن كل هذه الاجتهادات تصب في الاجتهاد العملي الإجرائي ولا تغامر بمساءلة الكلي في المسألة.
وفي هذا الغطار، ومع استمرار الحوار، وأنا أرجو أن ينفتح الجميع على الحوار، فما نفعله أنا وأنت نسميه تحاورا، وأنا أعرف إن موقعك مختلف عن موقعي الفكري، ومع ذلك هناك إمكانية لأن تتوسع رؤيتي وأن أوسع رؤيتك؛ فيتم توسيع الآفاق وتوسيع الرؤى. أنا أتصور أن هذه هي قيمة اللحظة وقيمة الحدث الذي جرى في مصر، ولهذا السبب فأنا أتصور إنه على النخبة أن تلتقط هذه الفرصة.

** لماذا برأيك تم استبدال الحاجة للحوار بإرادة الاستقطاب؟
د. علي مبروك:
 وسيظل يتم لسبب بسيط لأننا لا زلنا نتعاطى مع المسائل بالطريقة الإيديولوجية وليس بالطريقة المعرفية. الحوار يحتاج إلى معرفة. فضبط المفاهيم الذي بدأنا منه يحتاج إلى معرفة، ويحتاج إلى حفر ودأب. الناس التي يقال لها رموز مصرية تجدهم الآن على إحدى القنوات الفضائية، وبعد ساعة تجده على قناة أخرى؛ يتنقل من قناة إلى قناة في مدينة إنتاج إعلامي واحدة. فهل مثل هذا لديه وقت للحوار أم عنده وقت ليظل يكرر منظومة الشعارات التي حفظناها ومللناها. هذا أخطر ما يتهدد اللحظة في مصر الآن وهو طغيان هذه النزعة الإيديولوجية في التعامل مع مفاهيم ينبغي أن تخضع لمعارفنا وحوار معارفنا.
فالشرط المهم جدا للحوار الذي سيفتح الباب لنا الآن هو نقد التعاطي الإيديولوجي، وكشف كيف أن الأيديولوجيا حاضرة باستمرار في ما تتداوله النخبة، وإنها تجعلنا نخسر الكثير وستجلنا نخسر أكتر.
لا نريد أن يطل علينا دعاة. نريد علماء يفكرون بطريقة منهجية، ويتجاوزوا الأيديولوجيا لتقديم اجتهاد حقيقي. لا نريد أن يأتينا أحد ولديه كل الأجوبة جاهزة، نريد التعاطي بعقلية الباحث الذي يطرح الأسئلة التي تحتاجها البلد.

تم النشر في موقع أون اسلام بتاريخ 19 يوليــــــــــــــو 2011
حوار/ وسام فـــــــــــــؤاد



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق