الخميس، مايو 31، 2012

عن الديــن والدولة والاجتمــاع المدنـــي




لايتعلق الأمر أبداً بالقصد إلي الانتقاص والحط من شأن أي تشكيل مجتمعي بحسب ما قد يتراءي للصاخبين من مؤدلجي الاسلام‏,‏
 بقدر ما يتعلق بالسعي إلي إنتاج معرفة منضبطة بالشروط التي تترتب ضمنها العلاقة بين الدين والدولة‏.‏

فإنه ليس ثمة من نمط واحد تترتب بحسبه العلاقة بين الدين والدولة, بل إن التجربة البشرية قد عرفت نمطين لترتيب العلاقة بينهما,
بدا أن الدين في أحدهما هو المنتج لما يمثل شرطا لنشأة الدولة, بينما كان يجري في النمط الآخر استيعابه ضمن بنية الدولة القائمة.
ويتأتي الاختلاف بين هذين النمطين من التباين بين تشكيلتين مجتمعيتين فرضت إحداهما حضورا للدين لاحقا علي قيام الدولة, وذلك فيما فرضت الأخري حضوراً للدين سابقاً علي الدولة وشرطاً لها.

 وبالطبع فإنه لا يمكن فرض القواعد الخاصة بأحد النمطين علي الآخر, وبمعني أنه لايمكن فرض نمط العلاقة بين الدين والدولة الخاص بتجمعات الصحراء علي مجتمعات الماء, والعكس, والحق أن الأمر يتجاوز مجرد التباين بين نمطين في العلاقة بين الدين والدولة إلي الاختلاف, بالمعني الحضاري الشامل, بين روحين, صاغت إحداهما طراوة الماء, وذلك فيما حملت الأخري مرارة الصحراء.

 ولسوء الحظ فإن ثمة في مصر( التي هي أحد مجتمعات الماء العتيدة) من لا يقدر علي استيعاب حقيقة هذا التمييز, فيسعي إلي أن يفرض عليها علاقة بين الدين والدولة تخص تجمعات الصحراء.
 إبتداء من ذلك كله, وانطلاقا من حقيقة التباين ـ الذي لا يماري فيه أحد ـ بين الجماعات البشرية فيما يخص العمق التاريخي لتبلورها الحضاري, فإنه يمكن القول إن عرب ما قبل الإسلام لم يكونوا مثل غيرهم من الجماعات ذات التبلور الحضاري الأسبق, التي إمتلكت ـ كالمصريين والفرس والإغريق ـ تقاليد سياسية راسخة قبل أن تعرف الدين.

 ومن هنا أنهم لم يتوفروا علي تراث في النظر( والإشتغال) السياسي يستفيدون منه لغة السياسة ومصطلحها, بل إن ميلاد السياسة( نظرا وإشتغالا) قد تحقق عندهم في قلب الإسلام. ويرتبط ذلك بحقيقة أنه إذا كان تبلور النظر في السياسة يحتاج إلي ممارستها والاشتغال بها أولا,
 فإن مثل هذا الإشتغال يستحيل, بالكلية في حال غياب قواعد الاجتماع المدني أو الأهلي التي يبدو أن شروط الجغرافيا الطبيعية قد حكمت بغيابها عن عوالم عرب ما قبل الإسلام, فالملاحظ أن هذه القواعد ترتبط( وجودا وعدما) بطبيعة الوسط الجغرافي الذي تعيش فيه الجماعة,
 وبمعني أنه إذا كان الشرط الجغرافي قد فرض علي الجماعات التي تعيش في أحواض الأنهار أن تبلور قواعد للتعاون والعيش الأهلي المشترك( للقيام علي شئون ضبط النهر), وبما أتاحه لها ذلك من قيام السلطة المركزية وإمتلاك الدولة
(كتنظيم سياسي)
 قبل أن تعرف الدين
( وذلك بمثل ما جري في مصر وبلاد ما بين النهرين مثلا ),

 فإن شروط الجغرافيا الصحراوية لم تسمح للجماعات التي تعيش فيها
(ومنهم عرب ما قبل الإسلام) ببلورة قواعد للاجتماع المدني علي نحو يسمح لها ببناء السلطة والدولة.
 ولعل ذلك ما يبين عنه التحليل الضافي الذي قدمه إبن خلدون للوضع الذي كان عليه عرب ما قبل الإسلام, والذي يمضي فيه إلي إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين علي الجملة.
 والسبب في ذلك ـ كما يقول ـ إنهم, لخلق التوحش الذي فيهم, أصعب الأمم إنقيادا بعضهم لبعض, للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة, فقلما تجتمع أهواؤهم, ولذلك كانوا أبعد الأمم عن سياسة الملك.
ويربط ابن خلدون ذلك بأنه إذا كانت سياسة الملك والسلطان تقتضي أن يكون السائس حاكما بالقهر, وإلا لم تستقم سياسته, فإن القائم علي رأس كل واحد من تلك التجمعات كان مضطرا إلي عدم مغاضبة أهل عصبيته أو قهرهم, لكيلا يختل عليه شأنهم, فيكون في ذلك هلاكه وهلاكهم. بل إن العرب ـ علي قوله ـ كانوا إذا ملكوا, وهم علي تلك الحال, أمة من الأمم ذات العمران.

 القائمة فإنهم يجعلون غاية ملكهم في الانتفاع بأخذ ما في أيدي أهل تلك الأمة, ويتركون ما سوي ذلك من الاحكام, فتنمو المفاسد, ويقع تخريب العمران.
وتبعاً لذلك,
 فإنه إذا كان الأفراد في مجتمعات الماء قد وجدوا أنفسهم في مواجهة أنهار هائجة, وبحيث أدركوا استحالة التحكم فيها وضبطها إلا عبر وجوب اجتماعهم وتعاونهم, وانقيادهم لسلطة مركزية تسوسهم وتدير شأنهم, فإن التجمعات المبعثرة من قاطني الصحراء قد استغنوا, لاعتيادهم علي الشظف وخشونة العيش عن غيرهم,
 وصعب ـ علي قول إبن خلدون ـ انقياد بعضهم لبعض لإيلافهم ذلك وللتوحش القائم بهم. ولأن هذه التجمعات كان يمكن أن تظل علي نفس الحال التي فرضتها عليها الطبيعة, فإن الدين يظهر فيها للانتقال بها إلي حال الاجتماع المدني المجاوز لنمط الاجتماع الطبيعي المتدني الذي تعيش عليه.


إذا كان الدين بما أذهب من الغلظة والأنفة والتحاسد والتنافس قد ساعد عرب ما قبل الإسلام علي بلوغ حال الاجتماع المدني الذي هو الشرط اللازم لبناء الدولة, فإن ما يلفت الانتباه حقا إلي أن ابن خلدون لم يتطرق أبدا إلي أن الإسلام قد وضع قواعد للدولة ونظام الحكم فيها.
 بل إنه ـ وغيره من المؤرخين السابقين ـ لا يكفون عن التصريح بأن العرب قد استفادوا من القواعد التي أقاموا عليها دولتهم في الإسلام من المجتمعات المفتوحة التي عرفت نظام الدولة قبلهم. وفي كلمة واحدة, فإن ذلك يعني أنه إذا كان الدين قد ساعد العرب علي بلوغ حال الاجتماع الذي ما كان لهم أن يبلغوه لو تركوا وشأنهم, فإنه قد ترك لهم أن يبنوا دولتهم بحسب ما يتيحه لهم زمانهم... فهل يستوعب أهل هذا الزمان تلك الحقيقة؟

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 31 / مايو / 2012


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق