الخميس، مايو 17، 2012

القرآن بين النص والكتاب



علي تعدد وتنوع تسميات القرآن لنفسه‏(‏
كالذكر والبيان والتنزيل والفرقان والكتاب والهدي والبلاغ‏),‏
 فإنه لم يطلق علي نفسه تسمية النص أبدا‏.‏ً
 ولعل موازنة بين تلك التسميات المتنوعة
 تكشف عن ان القرآن قد أراد لنفسه أن يكون كتابا, ولا نصا.
إذ فيما لم ترد ـ مطلقا ـ كلمة نص في أي التنزيل للدلالة علي القرآن أو علي غيره
  (من الكتب الأسبق), فإن كلمة الكتاب قد وردت في تلك الآيات لما يقترب ـ أو يكاد ـ من الثلاثمائة مرة تقريبا, للإشارة الي القرآن نفسه وإلي غيره من صور الوحي التي تنزلت علي الأنبياء السابقين, أو للإشارة إلي أصحاب الأديان السابقة من أهل الكتاب, وللدلالة أيضا علي الكتاب الحاوي للمعرفة الإلهية الأكمل والأشمل, أو اللوح المحفوظ.

وهنا يلزم التنويه بأن تقديم القرآن لنفسه ككتاب, وليس كنص, يرتبط بحقيقة أن النص ـ بحسب تعريفه في العربية ـ هو الواضح البين الذي لا يحتاج إلي تفسير, والذي لا يمكن بالتالي أن يكون موضوعا لقراءة, بل لمجرد الترديد والاستظهار, وذلك علي العكس تماما من الكتاب الذي لا يمكن بحسب طبيعته إلا أن يكون موضوعا للقراءة, وليس التكرار.
 وبالطبع فإن صعوبة أن يكون القرآن نصا تتأتي من استحالة تصوره من قبيل القرآن الظاهر الذي لا يحتاج إلي قراءة وتفسير.
 ففضلا عما ينطوي عليه ذلك من تصور القرآن نصا مغلقا وفي غاية الفقر الدلالي, فإنه ينطوي مع ماأورد الأصوليون أنفسهم من أن النصوص ـ في القرآن ـ عزيزة نادرة.
وهنا ينبثق السؤال:
 كيف تكون النصوص عزيزة, وإلي حد الندرة, في القرأن ـ وإلي حد مايقال من أن جزءا من آية واحدة فقط من آياته هي التي تحتمل, لوضوحها وظهور دلالتها, أن تكون نصا ـ بينما يصار الي أن القرآن بأسره يعد نصا ؟.

والغريب حقاً أن يكون القدماء أيضا لم يشيروا إلي القرآن والحديث باسم النصوص, كما نفعل في اللغة المعاصرة, بل كانوا في العادة يستخدمون دوالا أخرى كالكتاب والتنزيل والقرآن للدلالة علي النص القرآني,
وكانوا يستخدمون دوالا مثل الحديث أو الآثار أو السنة للاشارة الي نصوص الحديث, وكانوا يشيرون إليهما معا باسم الوحي أو النقل.
وكانوا حين يشيرون الي النص, فإنما كانوا يعنون به جزءا ضئيلا من الوحي, أو بعبارة أخري ما لا يحتمل أدني قدر من تعدد المعني بحكم بنائه اللغوي. ولعل يمكن, هكذا, ترجيح القول بأن التكريس الكامل للتعاطي مع القرآن, كنص, قد أعلن عن نفسه, بلا مواربة, مع إطلالة عصور الإنحطاط والتقليد المتأخرة التي توقفت فيها عملية القراءة وانتاج الجديد, ولم يعد ثمة إلا محض الاستظهار والترديد.

ولعله يتفق مع تقديم القرآن لنفسه, ككتاب للفهم, وليس كنص للاستظهار والحفظ, حملته القاسية علي أصحاب الأديان السابقة لأنهم جعلوا كتبهم موضوعا لمجرد الحفظ والاستظهار فحسب.
 ففي تفسيره لآية:
 مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا
 الجمعة 5 ـ
أورد ابن كثير مايلي:
 يقول تعالي ذاما لليهود الذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل بها, ثم لم يعملوا مثلهم في ذلك كمثل الحمار يحمل أسفارا, أي كمثل الحمار إذا حمل كتباً لا يدري مافيها, فهو يحمل حملاً حسياً, ولا يدري ماعليه, وكذلك هؤلاء في حملهم الكتاب الذي أوتوه, حملوه لفظاً, ولم يتفهموه ولا عملوا بمقتضاه, بل أولوه وحرفوه وبدلوه, فهم أسوأ حالاً من الحمير, لأن الحمار لا فهم له, وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها.

والحق أن كتاباً ينعي علي المؤمنين بالكتب السابقة حملهم الحسي لهذه الكتب, أي حمل الحفظ والترديد فقط, لا يمكن أن يقبل من المؤمنين به أن يكتفوا بمجرد الحمل الحسي له.
 بل إن إدانته للحمل الحسي إنما تحيل الي توجيهه إلي نوع آخر من الحمل, هو الحمل المعنوي الذي يستحيل معه القرآن من محمول علي الظهر ـ كظهر علي الحمار ـ الي محمول في العقل, وعلي النحو الذي يصبح معه ساحة لانتاج المعني.

ولعل دلالة الحضور الكثيف للفظة الكتاب في القرآن يرتبط بالقصد الي نقل المخاطبين( وهم عرب الجاهلية) الي المرحلة الكتابية, وبما يعنيه ذلك ـ علي نحو جلي وصريح ـ من أن القرآن ينطوي, في جوهره, علي السعي الي نقل عرب الجاهلية ـ الذين لم يعرفوا إلا نمطا من الثقافة الشفاهية بما يصاحبها من آليات تفكير لا تسمح بأي تطور ـ  إلي وضع حضاري أرقي.
 إذ الحق أن مايرتبط بالكتابية من آليات تفكير وطرائق في انتاج المعرفة تعتمد علي مجرد الحفظ والنقل.

وبالطبع فإنه إذا كانت آليات الحفظ والنقل الملازمة للشفاهية لاتسمح إلا بنوع من التقليد والاتباعية التي إنتقدها القرآن بشدة, إبتداء من إعاقتها لقدرة البشر علي تقبل هدي السماء, فإن آليات التفكر والتعقل التي تلازم الكتابية تنطوي علي فتح الباب امام ثقافة الكشف والابداع, وعلي النحو الذي يسمح بنقل الواقع الي حالة أكثر أرقي إنما يتفق مع التطورات التي كانت تجري في المجتمع المكي الذي كان يعيش سيرورة تحول الي مجتمع تجاري في حاجة الي التعاقدات المكتوبة.
وسوء الحظ فإن مايغلب علي الوعي الراهن للمسلمين من تقليد وإتباعية, وإبتعاد عن التعقل والتدبر, يكشف عن نوع من الارتداد الي مايكاد أن يكون الاسلام قد تنزل لتجاوزه.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 17 /مايو/ 2012


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق