الخميس، أبريل 28، 2011

عن الدينى والمدني. وأيهما المرجع للآخر؟




خشية النظر الى الأمر على أنه بمثابة دعم لنظام مبارك ـ الذى لم تعرف مصر مثيلا له فى التعاسة والبؤس إلا فى أشد لحظات تاريخها تدهورا وانحطاطا ـ فإن كثيرين قد أحجموا عن الانخراط فى حوار جدى مع شعارات ورؤى «جماعة الإخوان المسلمين» التى اعتاش نظام مبارك على خرافة أنه بديلها المدنى المتسامح، وهى الخرافة التى لم يتوقف النظام، حتى لحظة سقوطه، عن تسويقها لداعميه فى الغرب وبين شرائح واسعة من الأقباط وغيرهم من الذين خايلهم بالشكل المدنى لدولته عن جوهرها البوليسى السلطوى.
وليس من شك فى أن اختلاف الوضع بعد سقوط مبارك يجعل الحوار مع ما تطرحه الجماعة فرضا واجبا من أجل مستقبل يليق ببلد أبهر العالم، وخصوصا مع الوعى بأن الجماعة لابد، بعد التحرر من كونها موضوعا للاستهداف والمطاردة، أن تصبح أكثر انفتاحا على منطق الانفتاح والتحاور، بعد أن ظلت طويلا لاتعرف إلا مناخات التخوين والتخاصم. وإذن ـ وفى كلمة واحدة ـ فإن الشروط قد توافرت لحوار منتج، بعد أن ارتفع الحرج عن كل من كانوا يحجمون عن التعرض لخطاب الإخوان بعد السقوط المدوى لنظام مبارك الكابوسى من جهة، وبعد أن أصبح الإخوان، من جهة أخري، أكثر قدرة على التحرر من الانحشار فى مواقعهم الدفاعية التى جعلتهم غير قابلين ـ أو حتى قادرين ـ على مناقشة خطاب ظلوا يتمترسون حصونه الصلدة.
ولعل أهم ما تطرحه الجماعة فى سياق النقاش الراهن حول مستقبل مصر بعد سقوط مبارك، يتمثل فيما يجرى الترويج له من سعيها الى بناء «دولة مدنية ذات مرجعية دينية»، وعلى النحو الذى يمكن معه تأكيد أن مفهوم 
«المرجعية الدينية» للدولة يتميز بحضور بالغ المركزية فى مقاربة الجماعة لمستقبل الدولة المصرية. وضمن هذا الحضور المركزى الذى تقدم فيه الجماعة ترتيبا للعلاقة بين الدينى والمدنى على نحو يكون فيه الدينى هو المرجع المحدد للمدني، فإنه يلزم التنويه بأن هذا الترتيب للعلاقة يقوم على نوع من الافتراض المضمر بأن الدينى هو الإلهى الثابت، فى مقابل المدنى الذى هو الإنسانى المتغير، وعلى النحو الذى لابد معه أن يدور المدنى المتغير حول الدينى الثابت، أو حتى وراءه. فإذ «المرجع» هو ما يتم الرجوع اليه التماسا لمخرج من خلاف، فإنه كان لابد من تصوره على نحو من الثبات الذى يسهل افتراضه فى الديني/ الإلهي، بأكثر من المدني/ الإنساني.
وإذا كان أحدا لايجادل فى افتراض أن «المدني» هو الإنسانى المتغير، فإن الافتراضى القائل بأن «الديني» هو الثابت على النحو الذى يجعل منه مرجعا، إنما يحتاج الى نوع من التحديد والضبط. إذ الحق أن تأملا ـ ولو أوليا ـ فى الدين ـ أى دين ـ يكشف عن إمكان التمييز فيه بين جانب عقيدي/ تعبدى ينتظم علاقة الإنسان بربه (وهو ما يقال أنه يختص بالشأن أو المجال الخاص)، وآخر تشريعي/ تعاملى ينتظم علاقة الإنسان (فردا وجماعة) بغيره (وهو ما يقال أنه ـ على عكس سابقه ـ يخص الشأن أو المجال العام). وضمن سياق هذا التمييز، فإن الدين يقبل ـ وذلك بحسب الإسلام نفسه ـ أن يكون، فى جانبه العقيدي/ التعبدي، موضوعاً للإتفاق بين أهل الأديان جميعا، «قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله، ولانشرك به شيئاً ولايتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا إشهدوا بأنا مسلمون»، ولكنه ـ وبحسب الإسلام أيضاً ـ يقبل أن يكون، فى جانبه التشريعي/ التعاملى موضوعاً للاختلاف والتباين، حيث «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً». وإذن فإنه لايمكن افتراض الدين موضوعاً للثبات إلا فى أحد جانبيه (وأعنى جانب العقيدة وليس الشريعة)، وليس أبداً على نحو مطلق، وهو مايكاد أن يكون موضوعاً لاتفاق الكافة تقريباً، وعلى النحو الذى لايختلف فيه القرطبى مع محمد عبده أو الشيخ شلتوت. إذ الحق أن الجانب التشريعى للدين لايختلف فقط من دين الى آخر، بل ويختلف ضمن نفس الدين من لحظة الى أخري، ومن بيئة الى أخري. وإذ يستحيل رد هذا الاختلاف، فى الجانب التشريعى من الدين، إلا إلى اختلاف الوضع الإنساني، حيث «لاخلاف ـ حسب القرطبى بين العقلاء على أن شرائع الأنبياء قصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية. وأن العالم بذلك فإنما تتبدل خطاباته بحسب تبدل المصالح، كالطبيب المراعى أحوال العليل، فراعى ذلك خلفيته بمشيئته وإرادته، لا إله إلا هو خطابه يتبدل». وهكذا يعلق القرطبى تبدل الخطاب (الإلهي) على تبدل مصالح البشر الدينية والدنيوية (أو المدنية)، وعلى النحو الذى يكون معه «المدني» المتغير أو المتبدل هو «المرجع» المحدد لما يراه تبدلا فى الخطاب الإلهى للبشر. وبالطبع فإن ذلك يعنى أن تحولات «الديني» الذى تريد منه جماعة الإخوان المسلمين أن يكون مرجعاً للدولة المدنية، يكاد ـ هو نفسه ـ أن يجد مرجعيته فى تحولات الإنساني/ المدني. وإذا كان القرطبى يجعل التبدل يطال الخطاب الإلهى الى البشر على العموم، فإن حضور التبدل ضمن الجانب التشريعى من هذا الخطاب يكون أولى لامحالة، وأعنى من حيث يتعلق هذا الجانب بواقع البشر الذى يتغير ويتبدل، وليس بعقائدهم التى يلزم تصور أنها الأكثر ثباتاً ودواماً. ولعله يلزم التنويه، هنا، بما صار إليه القرطبى من أن عدم ربط تبدلات الخطاب الإلهي، بتبدلات مصالح البشر وواقعهم سوف يؤدى لامحالة ـ الى وصم الله «بالبداء» (أو الجهل)، وهو ما لايمكن قبوله فى حق الله أبداً. ولعل ما يعنيه منظرو الإخوان المسلمين بالدين كمرجع للدولة إنما ينصرف الى هذا الجانب التشريعى من الدين الذى يتعلق بعلاقة الإنسان بغيره، وذلك بما هو الجانب الأكثر اتصالاً بجوهر الدولة التى هى وبحسب النشأة ـ محض إطار لتنظيم العلاقة نفسها للإنسان (فرداً وجماعة) بغيره. وينبنى ذلك على أنه لايتصور أن تتخذ الدولة مرجعيتها مما يخص علاقة الإنسان بربه، وذلك ابتدا من خصوصية وفرادة تلك العلاقة على نحو لايمكن معه أن تكون مرجعاً لما به تنظيم علاقات المجموعة. وإذا لايبقى والحال كذلك ـ إلا أن الجانب التشريعى من الدين الذى ينتظم علاقة الإنسان بغيره، هو المقصود عند الحديث عن مرجعية دينية للدولة المدنية، وهو الجانب من الدين الذى يجد ما يؤسس لما فيه من الاختلاف والمغايرة ـ غير القابلين للإنكار ـ فى الوضع الإنسانى المدني، فإن ذلك يعنى وللمفارقة ـ أن المدنى هو المرجع للديني، وليس العكس. وحين يظل أحدا يتحدث، بعد ذلك، عن «الديني» كمرجع «للمدني»، فإنه لايفعل إلا أن يخفى «رؤيته» المدنية بطبيعتها وراء «الدين» ليضفى عليها حصانة تسمو بها فوق منطق الفهم والمساءلة، وهو المنطق الذى اشتغل به النظام الذى تسعى مصر الى تجاوزه والانفلات من أحابيله.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 28 / أبريل / 2011


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق