الجمعة، مارس 25، 2011

الدولة المدنية وبديلتها الشمولية




إذا كانت "المدنية" هى السمة، التى يكاد يتوافق عليها الكافة للدولة المأمولة فى مصر بعد ثورتها التى تجاهد من أجل أن تكون حدثاً تأسيسياً، فإنه يبدو - لسوء الحظ - أن تعبير "الدولة المدنية" لا يكاد يجاوز - فى الجدال المصرى الواسع الدائر الآن - حدود الشعار (الذى يجرى التعامل معه كأقنوم مطلوبٌ من الناس أن يتعبدونه، ولو من غير فهم) إلى المفهوم المنضبط (كنتيجة لخضوعه لعملية فهم ومساءلة). 
ولسوء الحظ، فإن ذلك يعكس إستمراراً لطريقة المقاربة "البرانية" للمفاهيم، مع إهمال المكونات "الجوانية" التى تؤسس لها؛ وهى الطريقة المسئولة، بالأساس، عن حال التأزم والإنسداد الذى بلغته الدولة العربية الراهنة. فهى الطريقة التى جعلت تلك الدولة تتعامل مع "الديمقراطية" - مثلاً - على أنها جملة هياكل برانية صورية، مع إهمال مكونها الجوانى التأسيسي، وعلى النحو الذى تحولت معه تلك الهياكل البرانية إلى أقنعة لإستبداد الحاكم وتسلطه. ولقد بلغت شكلانية وبرانية مفهوم "الدولة المدنية"، فى الجدل الراهن، حداً راح معه كثيرون يختزلونه فى رداء القائم على رأس الدولة (أو صاحبها بلغة ابن خلدون). وتبعاً لذلك، فإن الدولة تكون مدنية، طالما أن القائم على رأسها لا يعتمر قبعة "العسكر" أو عمامة "رجال الدين"، وأما المبدأ "الجواني" المؤسس لمدنية الدولة، فإن أحداً لا ينشغل بالسؤال عنه. وينسى الناس أنه مع غياب هذا المبدأ الجواني، فإنه لن يكون ممكناً بناء الدولة المدنية، ولو كان القائم على رأس الدولة من غير العسكر ورجال الدين. بل إنه قد حدث أن قام على رأس الدولة العربية من جاء من خارج دائرتى العسكر ورجال الدين، وأجبره غياب المبدأ المدنى للدولة على أن يرتدى زى الجنرالات أو الفقهاء؛ وذلك بمثل ما حدث فى كلٍ من سوريا والمغرب.
فالكل يتذكر ما جرى مع الرئيس السورى الحالى الذى ورث السلطة عن أبيه قبل بضع سنوات؛ حيث فرض عليه النظام أن يصبح جزءاً من مؤسسة العسكر (فيصبح جنرالاً فى جيش البلاد) قبل أن يصبح رئيساً. وهو نفس ما جرى، ولكن فى إتجاه آخر مع الملك محمد السادس فى المغرب، حيث ألزمه النظام أن يحمل كجزء من لوازم المُلك وتبعاته لقب "أمير المؤمنين" بما يحمله من دلالة دينية كثيفة. وبالطبع فإنه لا يمكن النظر إلى ما جرى من ارتداء أحدهما زى الجنرالات ووضع الآخر لعمامة "أمير المؤمنين" على رأسه، بوصفه إلغاءاً لمدنية دولتيهما، بقدر ما هو علامة على غياب تلك "المدنية" أصلاً. فالمدنية لم تغب عن الدولة لإرتداء الرجلين؛ أحدهما زى الجنرالات والآخر زى الفقهاء، بل إنهما قد إرتديا هذين الزيين لغياب المدنية أصلاً، وعلى نحو تبدو معه مسألة الزى هى بمثابة "نتيجة" لغياب المدنية، وليست "سبباً" لها. 
ولسوء الحظ فإن الإنشغال الراهن بالزى الخارجى للحاكم، على حساب وجوب السعى إلى ترسيخ المبدأ الباطنى الجوانى للمدنية، يبدو إنشغالآً بالهامشى والعارض، على حساب الجوهرى واللازم.
ولعله يبدو هكذا أنه إذا كانت العبرة فى مسألة "مدنية" الدولة، هى فى جوهرية حضور المبدأ الجوانى المؤسس لها، وليس فى زى القائم على رأسها، فإنه لن يؤثر فى مدنية الدولة أن يكون القائم عليها ممن يرتدون زى العسكر أو رجال الدين، طالما أن المبدأ الجوانى المؤسس لتلك المدنية قد تحقق، وحظى بإحترام الكافة، أولاً. ولكن ما هو هذا المبدأ الجوانى الذى يؤسس لمدنية الدولة؟
إن "المدنية" هى سمة لصيقة بالدولة، وإلى حد إمكان القول بأن تعبير "مدنية الدولة" يكاد يساوى تعبير "مائية الماء". فليس من "دولة" إلا وهى "مدنية" بطبيعتها، ولا يمكن أن تكون غير مدنية إلا حين تخون طبيعتها. فقد نشأت الدولة كآداة لإستيعاب تحول الإنسان من حال الوجود الطبيعى (الذى ينشغل فيه الفرد بمجرد إشباع حاجاته وغرائزه الطبيعية) إلى حال الاجتماع المدنى (الذى ينشغل فيه بما ينظم حاجته للإجتماع الضرورى مع الآخرين). 
وهنا فإنه إذا كان القانون الحاكم لحال الوجود الطبيعى للبشر هو قانون "سيادة الأقوى" الغالب فى الطبيعة، فإن القانون الذى ينبنى عليه الإجتماع المدنى هو قانون "الحق" الذى تصوغه الجماعة - على قول جون لوك - "شاملاً ووافياً لحاجة الجميع"، وبما يعنيه ذلك من أن الدولة المدنية هى، فى جوهرها، دولة "الحق"، وليست دولة "القوة" أو الإكراه والقمع. 
وإذ تتعدد الطرق إلى هذا "الحق" الذى هو جوهر الإجتماع المدنى وروحه، فإن مدنية الدولة لا تفارقها إذا ما حكمتها شريعة "عقلية" أو "دينية" طالما كانت تلك الشرائع قائمة على الفاعلية الكاملة لمبدأ "الحق". فالحق أن "الديني" يمكن أن يكون، شأنه شأن "العقلي" تماماً، طريقاً إلى "الحق"، على أن ذلك يستلزم إشتغالاً معرفياً واسعاً يرفع ما جرى ترسيخه من التعارض بينه وبين المدنى. 
وهنا فإنه إذا كان قد حدث أن هذا "الديني" قد إستحال إلى قناع للتسلط والتمييز، فإن "العقلي" لم يفلت، بدوره، من أن يكون طريقاً إلى أعتى ضروب التمييز والقمع. وبالطبع فإنه إذا كانت الخبرة التاريخية للإنسانية تكشف عن قدرة البشر على تعرية كافة الأنظمة التى تتسلط عليهم بإسم "العقل"، فإنها تؤكد قدرتهم، بالمثل، على فضح من يمارسون ذات التسلط عليهم بإسم "الله". وعلى أى الأحوال، فإنه يبقى أن ذلك يؤشر، لا على تعدد الطرق إلى "الحق" فقط، بل - والأهم - على أنه ليس ثمة طريق جاهزاً إليه، بل إن البشر يصنعون طريقهم إليه فى قلب تجربتهم الخاصة، ولا يستعيرونه مكتمل الصنع من خارجها. 
وإذا كان قد بدا، هكذا، أن الدولة، على العموم، هى "آداة" الإنسان فى تنظيم إجتماعه المدنى على قاعدة "الحق"، فإنه كثيراً ما حدث أن إنحرفت الدولة عن هذا الدور الذى أراده لها منشئها؛ الذى هو الإنسان لا محالة. 
وهكذا فإنها راحت تحيل نفسها إلى "بقرة مقدسة" يتعبدها الناس ويتبركون بفضلاتها. ولعلها بذلك كانت تتنكر لإنسانيتها، وعلى النحو الذى أحالت معه الإنسان إلى "آداة" فى يد قوة عمياء باطشة. 
وغنيٌّ عن البيان أن الدولة عندئذ تكون قد خانت طبيعتها كدولة مدنية، وتحولت إلى ما جرى التعارف على أنه الدولة الشمولية. فهذه الأخيرة هى دولة الفكرة المغلقة المطلقة، بصرف النظر عن مضمون تلك الفكرة الذى قد يكون دينياً أو حتى علمانياً. إنها الفكرة - الدوجما التى تعلو فوق البشر الذين يجرى النظر إليهم كمجرد آدوات أو أشياء تتحقق بواسطتها تلك الفكرة. وإذن فإنها الدولة التى يستحيل معها الإنسان إلى مجرد آداة فى قبضة قوة مجاوزة له؛ سواء كانت تلك القوة هى الله (أو الناطقين بإسمه بالأحرى)، أو الزعيم (الإنسان الأعلى) أو الحزب أو الطبقة أو الطائفة أو العشيرة أو حتى النظرية العلمية، أو أى أنظمة مجاوزة لوجود الإنسان بما هو كينونة فاعلة حرة. 
ولعل ما يبدو، على هذا النحو، من أن وسيلة الشموليات فى إنتاج نفسها تنبني، بالأساس، على تكريس تصور الإنسان "الأداة"، وليس "الفاعل"، يدفع إلى الإنهاء بمشهد ذلك الرجل الذى إختار أن يقف ليلة الإحتفال العارم بتنحى الرئيس "مبارك"، حيث توقف رجلٌ فى منتصف كوبرى قصر النيل - المؤدى إلى ميدان التحرير - رافعاً لوحة كتب عليها: "الله وحده هو الذى أسقط النظام"، فبادرته بالسؤال: وماذا كان يفعل كل هؤلاء الناس على مدى الأيام السبعة عشر الماضية؟، وأردفت: لماذا يا سيدى تحاول أن تسلب الناس حقاً ينبغى نسبته إليهم؟، لكأنك تقول لهم: كفوا عن إحتفالكم بنجاحكم فى إنفاذ إرادتكم التى ظل يدوى بها هتافكم "الشعب يريد إسقاط النظام"، فليس لكم أى فضل فيما حدث، بل الفضل لغيركم. فرد الرجل قائلاً: إن الناس كانوا مجرد سبب أو "آداة" لله، لا غير. لم يكن المقام يسمح - طبعاً - بالمزيد من النقاش، ولكنه حدث أن جمعاً من الشباب كان يتابع الحوار، قد رفض أن يقوم الرجل، ولو عبر مراوغة التخفى وراء الله، بإهدار ما قام به الملايين من الشيب والشباب، فهتفوا: "الشعب هو الذى أسقط النظام". ورغم ما ينطق به هتاف الشباب من وعى باهر، فإن المرء يخشى من أن البعض- ولو ببراءة وحسن نية - يدفع العربة فى اتجاه شمولية يمارس فيها البعض تسلطه من وراء قناع مختلف. إذ الحق أن عبارة "الله وحده هو الذى أسقط النظام" ليست- فيما قد يرى الكثيرون- مجرد تعبير عن موقف "إيمانى" مخلص، بقدر ما تعبر، وبامتياز، عن موقف "سياسي"، يجاوز- فى الحقيقة - إيمان الرجل وتقواه. 
فإنه حين يحاول البعض السطو على الدور الفاعل والمشهود للناس، ليردوه إلى الله، فإن ذلك يكون من قبيل الرد إلى الله بالمجاز، وأما فى الحقيقة، فإنهم يردونه إلى "ذلك" الذى ينطق بإسمه ويتخفى وراءه (سواء كان فرداً أو جماعة). وهنا تقوم المشكلة.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 25 / مــــارس / 2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق