الخميس، يونيو 23، 2011

الدولة المصرية‏/‏ العربية الحديثة‏....‏ واقع أم أمنية ؟





لا تقل المشكلات التي تجابه الخطاب الرائج في مصر عن الدولة المدنية أو الحديثة عن تلك التي تجابه خطاب دولة يلعب فيها الدين دورا حاكما‏.‏ فكلا الخطابين ينطوي علي ضروب من المواءمات والتلفيقات الإيديولوجية التي تجعل الواحد منهما خطاب إنتاج أزمة‏,‏ وليس أبدا خطاب انعتاق منها..‏.‏.

وبالطبع فإن الخطابات لن تكون قادرة علي الإنتاج المثمر في الواقع ما لم تتحرر من عوائقها الإيديولوجية التي تحول بينها وبين الفحص المعرفي الدقيق للمفاهيم والتصورات التي تفكر بها, وتؤسس عليها حلولها لأزمات هذا الواقع. ولعل مثالا علي ذلك يأتي من مقاربة للخطاب الذي يدير البعض اسطوانته الآن, عن ضرورة التوقف عن استخدام مصطلح الدولة المدنية الذي يعد من قبيل اللغو الفارغ الذي لا معني وراءه, والتأكيد- بدلا منه- علي مفهوم الدولة الحديثة التي تعرفها مصر- ومعها العرب- منذ مطلع القرن التاسع عشر, والتي حدث أن خبا بريقها علي مدي نصف القرن الأخير, ويلزم إعادة الاعتبار إليها الآن.
 والحق أنه يمكن فهم التحفظ علي استخدام مصطلح الدولة المدنية; حيث إن الاجتماع المدني للبشر بما فرضه من ظهور السلطة السياسية لأول مرة- والذي يمثل تقدما أرقي بالقياس إلي أشكال الإجتماع الطبيعي القرابي الأسبق, بما تقوم عليه من سلطة طبيعية( آبوية بطريركية في الأغلب)- هو الأصل في نشأة الدولة ككيان سياسي مدني.
وإذ يحيل ذلك إلي أن المدنية هي الأصل في نشأة الدولة بما هي دولة, فإنه لا يمكن تصور أن تكون المدنية وصفا مضافا إلي الدولة; تماما كما لا يمكن أن تكون المائية وصفا مضافا للماء. وإذ يمكن التجاوب, علي هذا النحو, مع التحفظ علي استخدام مصطلح الدولة المدنية لأنه من قبيل تفسير الماء بالماء, فإنه لا يمكن, في المقابل, الاتفاق تماما- ومن وجهة نظر مدققة- علي أن ما عرفته مصر منذ مطلع القرن التاسع عشر, مع محمد علي باشا, يعد من قبيل الدولة الحديثة.


وهكذا فإنه إذا كان ثمة من العرب من يقاربون دولتهم الراهنة باعتبارها دولة حديثة, فإنه يبدو- لسوء الحظ- أن هذه الدولة لم تعرف إلا أن اتخذت لها من الحداثة اسما ورسما أو قناعا وشكلا, وأما الطبيعة والمحتوي, والنظام العميق لهذه الدولة, فإنه قد ظل- في جوهره المتخفي وراء البراقع والزخارف- ينتمي إلي فضاء الدولة التقليدية ما قبل الحديثة. ولعل ذلك يرتبط بحقيقة أن تلك الدولة, التي يقال عنها أنها حديثة, قد انبثقت كجواب علي سئوال التغيير الذي فرض نفسه علي مصر بقوة مع مطلع القرن التاسع عشر. فقد بدا- حسب أحد شهود تلك اللحظة; وأعني به المعلم الجنرال يعقوب- أن تغييرا( في مصر) لا يمكن أن يكون نتاج أنوار العقل, أو اختمار الآراء الفلسفية المتعارضة, بل تغييرا تجريه قوة قاهرة علي قوم وادعين جهلاء. لقد حدد الجنرال النابه طريقين للتغيير; أحدهما العقل وثانيهما القوة, ولأن حضور العقل كان خافتا آنذاك- وربما للآن-, فإنه لم يكن من سبيل لإحداث هذا التغيير إلا محض القوة. وضمن هذا السياق, فإن ما يقال إنها الدولة المصرية/العربية الحديثة قد إنبثقت بما هي قوة لفرض هذا التغيير علي المجتمع; الذي إرتآي فيه المعلم يعقوب- مجرد قوم من الوادعين الجهلاء. وهنا يظهر التعارض زاعقا بين دولة الحداثة الشكلانية التي عرفها العرب; بما هي قوة لفرض التغيير علي مجتمع الوادعين الجهلاء, وبين دولة الحداثة الحقة التي انبثقت- في السياق الأوروبي- كنتاج لعملية تغيير واسعة يحققها المجتمع بنفسه في كافة المجالات.



ولعل مثالا علي هذا التعارض الزاعق يتبدي- كأجلي ما يكون- في صورتين للحاكم/الدولة تحملهما نصوص رائد الحداثة العربية الأكبر الطهطاوي; وهي النصوص التي لم تفقد هيمنتها للآن. فإذا كان الرجل قد مضي- في سياق ما قال إنه كشف الغطاء عن تدبير الفرنساوية, مستوفيا غالب أحكامهم ليكون تدبيرهم العجيب عبرة لمن اعتبر- إلي إن ملك فرنسا ليس مطلق التصرف, وإن السياسة الفرنساوية هي قانون مقيد بحيث إن الحاكم هو الملك بشرط أن يعمل بما هو مذكور في القوانين التي يرضي بها أهل الدواوين, فإن ذلك يتعارض كليا مع ما سيقوله- كاشفا الغطاء عن تقاليد دولته المصرية التي استعاد, في حديثه عنها, مفردات قاموس السياسة الشرعية المغاير كليا, لذلك الذي تداوله بصدد تدبير الفرنساوية- من إن للملوك في ممالكهم حقوقا تسمي بالمزايا, وعليهم واجبات في حق الرعايا. فمن مزايا الملك أنه خليفة الله في أرضه, وأن حسابه علي ربه, فليس عليه في فعله مسؤلية لأحد من رعاياه, وإنما يذكر للحكم والحكمة من طرف أرباب الشرعيات أو السياسات برفق ولين, لإخطاره بما عسي أن يكون قد غفل عنه, مع حسن الظن به, لقوله صلي الله عليه وسلم, الدين النصيحة, فقلنا لمن يا رسول الله, قال لله ولكتابه, ولرسوله ولأئمة المسلمين. ورغم ما ألمح إليه الطهطاوي من أن علي الملوك واجبات في حق الرعايا, فإنه لم يذكر منها إلا واجب مراعاة العدل في حقهم; وهو الواجب الذي تركز عليه القول في أدبيات السياسة السلطانية, وإلي حد إمكان القول بأنه قد استغرق هذه الأدبيات كليا..
 وهكذا فإنه وحتي حين استحضر الطهطاوي الرأي العمومي, فإنه لم يستحضره ليجعل منه قيدا علي هذا النوع من الحاكم المنفلت, بل وفقط لأن الحاكم قد يشعر, في مواجهته, بالحياء; الذي هو- من غير شك- أمر ذاتي يخصه, لأنه قد يحدث أن يوجد حاكم لا يشعر بذلك الحياء في مواجهة محكوميه. وإذ يكاد الطهطاوي ينتهي, تبعا لذلك, إلي أن أصل ومصدر سلطة الباشا, ليست الأمة, بل الله; الذي يلح الطهطاوي- في غير موضع من نصه- علي أنه هو الذي ولاه حكم مصر, فإن كون ذلك مما يتعارض مع الواقع التاريخي الذي يقطع بأن تولية الباشا كانت من جماهير الشعب ونخبته التي استمسكت به في مواجهة الإرادة السلطانية العثمانية, التي كانت تتخفي وراء المشيئة الإلهية المتعالية, لمما يكشف عن أزمة مثقف يجد نفسه مضطرا لأن يكون بوقا لسلطة القوة علي حساب سلطة الحقيقة.
وهكذا يتعارض تدبير السياسة الفرنساوية الحديث, القائم علي الحكم المقيد بالقانون والمشروط بالرضا العمومي للجمهور, مع التقاليد التراثية الراسخة للدولة السلطانية; التي لا تعرف إلا حكم المتسلط, المنفلت من أي قيد أوحد; والذي لا يملك الرعايا, في مواجهته, حق المساءلة, حتي وإن جار وأخطأ, بل إن عليهم واجب النصح له وحسن الظن به أبدا. ولعل هذا التجاور بين ما ينتمي لعالمين, هو- وللمفارقة- ما يؤكده الذين ينافحون, الآن, عن وجود الدولة الحديثة. فهم- وللغرابة- يقرون بأن ممارسة السياسة في إطار تلك الدولة ( الحديثة!!)
 قد ظلت تتحقق من خلال روابط ومؤسسات القوة التقليدية

  (كالعائلة والعشيرة والقبيلة والعصبيات وغيرها);


 وبما يعنيه ذلك من أن المؤسسة السياسية الحديثة, كالبرلمان والحزب وغيرها, لم تقدر علي تقويض, أو حتي اختراق, روابط ومؤسسات القوة التقليدية. بل إن ما جري لا يتجاوز حدود أن تلك المؤسسة الحديثة قد استحالت إلي هيكل أو رسم فارغ, راحت المؤسسات والروابط التقليدية تملؤه بحضورها الذي بدا وكأنه يتأبي علي الغياب.
ولعل تفسيرا لذلك يأتي من الوعي بحقيقة أن المؤسسات السياسية الحديثة كانت محض أدوات لتفعيل الأساس الفلسفي لدولة الحداثة الحقة; والذي يتمثل في انبثاق الأفراد بما هم إرادات واعية حرة. وأعني أنها كانت وسائل إنسان الاستنارة في تحقيق كينونته السياسية; وعلي النحو الذي لا يمكن معه تصور حضورها من دون منجزات إنسان الاستنارة المعرفية العقلية والسياسية والاقتصادية.
وبالطبع فإنه كان لابد, حين جري استدعاء تلك المؤسسات الحديثة, مع عدم توفر المنجز الفلسفي العقلي والاستناري- وحتي المادي- المؤسس لها, أن تستحيل إلي مجرد أوعية جديدة, ولكن فارغة, وعلي نحو راح معه يجري تحميلها بالمضمون الراكد القديم. وهكذا فإنها صارت أدوات تفعل من خلالها إرادة المستبد, بدل أن تكون سلاح الأفراد في مواجهة تلك الإرادة المنفلتة.

ولسوء الحظ, فإن ذلك لا يؤدي بدعاة الدولة الحديثة إلي الإقرار بما سبق أن انتهي إليه أحد كبار مفكري النهضة- وأعني به سلامة موسي- من أن تلك الدولة الديمقراطية الحديثة هي أقرب إلي لأمنية المرجوة منها إلي الواقعة المتحققة, مع ما لهذا الإقرار من قيمة كبيرة.
فالإقرار بأن تلك الدولة هي أمنية لا واقعة سوف يفتح الباب أمام ضرب من التحليل الذي يجعل غايته الكشف عن العوائق الدفينة التي جعلتها مجرد أمنية لا تقبل التحقق, رغم السعي الدؤوب لذلك; وبما يعنيه ذلك من الحفر العميق وراء تلك العوائق التي تضرب بجذورها في البنايات الثقافية الراسخة.

تم النشر في جريدة الاهرام بتاريخ 23 / يونيو /2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق