الجمعة، أكتوبر 07، 2011

ليـــس من الإســــــــــلام




ثمة كثيرون أحضرتهم الثورة من عالم الصمت والظلال إلي عالم الصخب والإبهار‏.‏ من بين هؤلاء رجل لطيف‏;‏ عصري المظهر واللباس‏,‏ حليق الذقن والشارب‏,‏ وعلي جبهته ينسدل شعره الطويل الناعم‏.‏ وحين يدرك المرء أن هذا الوجيه العصري هو أحد أفراد الفيلق الإعلامي لجماعة الإخوان المسلمين‏,‏
 فإنه قد يندفع إلي الظن بأن الإلحاح علي الظهور الطاغي لهذا الرجل بالذات هو- وبصرف النظر عن مضمون ما يقوله- أمر مقصود بذاته للإيهام بحداثة الجماعة وعصرانيتها.

وإذن فلعله يبدو وكأن الجماعة على وعي بأنها تخوض حرب الصورة في ما يقال أنه عصر الصور; وبحيث راحت تسعي لتثبيت صورة لمنتسبيها في مخيلة الناس تختلف عن تلك التي استقرت لهم قبل ذلك; وهي صورة تستوفي كل مفردات العصر الحداثي الراهن. وللإنصاف فإن الأمر يتجاوز مجرد خلق الإيهام عبر إستخدام الصورة العصرية للرجل إلي ما يبدو من أن مفردات الخطاب الذي تدور به إسطوانته, كل ليلة تقريبا, قد راحت تختلف, بدورها, عن تلك المتداولة في خطاب الجماعة; ولكن مع ملاحظة أن هذا الاختلاف لا يتعدي حدود مجرد الشكل والصورة أيضا.
وإذ يكتفي أقران هذا الرجل العصري وإخوانه, بالتفكير في دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية; وبما يعنيه ذلك من الإقرار الضمني بأن الدولة المدنية قد انبثقت خارج الإسلام, بل والدين علي العموم, ولهذا فإنهم يريدون لها أن تتخذ من الإسلام مرجعا لها, فإن هذا الوجيه العصري يتجاوز ذلك إلي القطع بأن الدولة المدنية, بل وكل مفردات الظاهرة السياسية الحديثة, قد حضرت( فكرة ومضمونا وإجراء) إلي الوجود مع الإسلام وحده. وبالطبع فإن ذلك يجعل الرجل من نوع المسلم الذي لم يجد السيد رشيد رضا- تلميذ محمد عبده ومريده- توصيفا له إلا أنه ما إن يتعرض لظاهرة حديثة( سياسية أو حتي علمية أو غيرها) إلا ويفكر أن هذا من الإسلام. وبحسب هذا النوع من التفكير, فإن الإسلام هو أصل كل شئ ومصدره بالإحداث والإنشاء, وليس بالتأويل والإلحاق; وعلي النحو الذي يبدو معه أن الأمر لا يتعلق بتأويل يقرأ تطورا لاحقا( كالدولة المدنية) في أصل سابق( هو الإسلام), بل بإنشاء الأصل السابق(الإسلام) للتطور اللاحق( الدولة المدنية).

وضمن سياق هذا التمييز, فإنه إذا كان مأزق القول بمرجعية إسلامية للدولة المدنية يتمثل فيما ينتهي إليه- خصوصا مع تصور هذه المرجعية علي أنها المنظومة الفقهية المتحدرة من السلف- من تكريس التمييز( ضد المرأة وغير المسلمين والأدني إجتماعيا وعرقيا), وعلي النحو الذي يتعارض مع جوهر ما تقوم عليه الدولة من إلغاء كل أشكال التمييز, فإن مأزق ما يقول به الوجيه العصري من أن الإسلام كان هو فقط الذي أحضر الدولة المدنية إلي الوجود, يتآتي مما لابد أن يترتب علي هذا القول حتما من أن الإسلام هو أصل الدولة المدنية بالإنشاء والإحداث, وليس بالإضافة والإلحاق. فالسابق, عنده, هو الذي أنشأ اللاحق وأحدثه من العدم. وبالطبع فإنه كان يمكن أن تكون لهذا القول مشروعيته ومنطقيته لو أن هذا التطور اللاحق قد انبثق ضمن سياق التجربة التاريخية للإسلام, أو أن من أحدثوه كانوا ممن ينتمون إليه ويؤمنون به, ولكن المأزق يتأتي من أنه قد تبلور خارج هذه التجربة; فضلا عن أن من أحدثوه كانوا من غير المسلمين فعلا.
يتأتي المأزق, إذن, من أن الإسلام الذي هو السابق, في الترتيب التاريخي, لا يمكن أن يكون- والحال كذلك- أصلا لتطور الدولة المدنية اللاحق إلا بالإضافة والإلحاق; أو- في كلمة واحدة- بالتأويل. وبالطبع فإنه لا سبيل لتجاوز هذا المأزق( في شكليه السابق الإشارة إليهما) إلا عبر الوعي بالأساس التأويلي الذي تقوم عليه العلاقة بين الإسلام, من جهة, والظاهرة السياسية الحديثة متمثلة في الدولة المدنية من جهة أخري.

في أبسط معانيها, فإن التأويلية تعني أن تنفتح الواحدة من منظومتين محددتين( كالإسلام والظاهرة السياسية الحديثة مثلا) علي الأخري, ولكن بكيفية تخلو من التضحية بجوهر إحداهما لحساب الأخري, أو فرض إحداهما علي الأخري علي نحو من الإكراه والتعسف. وبالطبع فإنه لا سبيل إلي هذا الانفتاح بين الواحدة من المنظومتين والأخري إلا عبر الوعي بجوهر ما تقومان عليه في العمق, وفيما وراء مجرد أشكالهما الظاهرة; وبمعني أن يكون الإسلام موضوعا لوعي يتجاوز الشكل الذي تركه عليه القدماء, وذلك بمثل ما تكون الدولة المدنية موضوعا لفهم يتجاوز محض حضورها الإجرائي الشكلي. ولسوء الحظ, فإن فعل الوعي يغيب عن الممارسة الراهنة, ولا يبقي حاضرا إلا فعل الفرض والطمس. فإنه إذا كان أصحاب القول بالدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية يفرضون علي تلك الدولة من المنظومة الفقهية المتوارثة ما يؤدي إلي التضحية بجوهر ما تقوم عليه, فإن صاحب القول بأن الإسلام هو الذي أحضر الدولة المدنية إلي الوجود يتجاوز مجرد الفرض للإسلام علي الظاهرة السياسية الحديثة إلي التضحية بالوجود الذاتي لهذه الظاهرة من الأصل.
وتبعا لذلك, فإن المنظومتين- بحسب هؤلاء- لا تنفتح الواحدة منهما علي الأخري في حوار منتج, توسع فيه الواحدة منهما الأخري وتتسع بها في الآن نفسه, بل تهدد إحداهما الأخري وتضيق بها; وذلك علي النحو الذي يجعل من التعامل الراهن مع الظاهرة السياسية الحديثة في علاقتها مع الإسلام, تعاملا عقيما وفاسدا.
وإذا كان فساد هذا التعامل وعقمه يتأتي من إنكار التأويلية كأساس للعلاقة بين منظومتي الإسلام والظاهرة السياسية الحديثة, فإن ما يثير الاندهاش, حقا, أن سلفا كبيرا, في وزن السيد رشيد رضا الذي يمكن اعتباره رائدا للأستاذ البنا مؤسس جماعة الإخوان, قد كتب- قبل أكثر من مائة عام- ما يشي بفهم أكثر وعيا واستنارة, من ذلك الذي يثرثر به أحفاده المتأخرون, لعلاقة الإسلام بالظاهرة السياسية الحديثة.

فقد كتب الرجل في( المنار) :
 لا تقل أيها المسلم إن هذا الحكم( الدستوري الحديث) أصل من أصول ديننا, ونحن قد استفدناه من الكتاب المبين ومن سيرة الخلفاء الراشدين, لا من معاشرة الأوروبيين والوقوف علي سيرة الغربيين. 

فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس, لما فكرت أنت وأمثالك أن هذا من الإسلام, ولكان أسبق الناس إلي الدعوة إلي إقامة هذا الركن علماء الدين في الأستانة وفي مصر ومراكش; وهم الذين لا يزال أكثرهم يؤيد حكومة الأفراد الإستبدادية ويعد من أكبر معاونيها, ولما كان أكثر طلاب حكم الشوري المقيد هم الذين عرفوا أوروبا والأوروبيين...ألم تر إلي بلاد مراكش, الجاهلة بحال الأوروبيين, كيف تتخبط في ظلمات استبدادها, ولا تسمع من أحد كلمات شوري مع أن أهلها من أكثر الناس تلاوة لسورة الشوري, ولغيرها من السور التي شرع فيها الأمر بالمشاورة وفوض حكم السياسة إلي جماعة أولي الأمر والرأي....(وإذن) فلولا اختلاطنا بالأوروبيين, لما تنبهنا من حيث نحن أمة أو أمم إلي هذا الأمر العظيم. وهكذا فإنه لولا ما حققه الأوروبيون في مجال الظاهرة السياسية الحديثة وغيرها, لما كان للمسلم- بتعبير رضا- أن يفكر أن هذا من الإسلام أصلا.
وليس من شك في أن فعل التفكير الذي ينسبه رضا إلي المسلم- في هذا السياق- ليس تفكير ابتكار وإبداع, بل تفكير إلحاق واستتباع, علي الطريقة العتيقة للفقهاء; وأعني من حيث ما يبدو من أن فعل التحقيق والإبداع كان مقصورا- في اللحظة التي كتب فيها نصه, ولا يزال علي نفس الحال للآن- علي الأوروبيين وحدهم, وذلك فيما لا يعرف المسلمون إلا فعل الاستتباع والإلحاق. وبالطبع فإنه لو كان للمسلمين أن يمارسوا فعل التحقيق والإبداع, لكان لهم أن يجادلوا بأن إسلامهم السابق هو أصل إبداعهم اللاحق. وأما أن يتركوا للأوروبيين فعل الإبداع ويكتفي المسلمون بفعل الإلحاق, فإنه ليس لهم أن يضيفوا إبداع غيرهم اللاحق إلي أصلهم السابق; أو أن هذه الإضافة هي من قبيل قراءة اللاحق في السابق; التي تظل قراءة تأويلية أبدا.
ولعله ليس من تفسير لهذا التباين بين موقف رشيد رضا وموقف أحفاده المتأخرين إلا أنه فيما كانت المعرفة وتنوير الأذهان- ولو بخصوص هذه المسألة المتعلقة بالإسلام والسياسة الحديثة بالذات- هي شاغل تلميذ الأستاذ الإمام, فإن أحفاده من مؤدلجي الإسلام المتأخرين, قد غرقوا في مستنقع الإيديولوجيا إلي ما بعد أذقانهم. وغني عن البيان أن إنكار التأويلية من جانب هؤلاء المؤدلجين للإسلام إنما يرتبط بأن القصد عندهم ليس تنوير الأذهان بقدر ما هو التجييش وحشد الأتباع. وبالطبع فإنه ليس من سبيل أمامهم لفعل ذلك إلا من خلال نفي التأويلية عن تلفيقاتهم الإيديولوجية للإسلام, ليضفوا عليها قداسة المتعالي الذي يتعدي بها حدود الأفهام إلي محض التلقي والإذعان.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 6 / أكتوبر / 2011


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق