الخميس، يناير 12، 2012

القــــــــرآن والصـــــراع علي المعـنــــي




يرتبط السعي الدءوب للكثيرين في مصر إلي تسييد المنظومة المعرفية القديمة‏(‏ في شتي جوانبها الفقهية والتفسيرية والعقائدية والحديثية وغيرها‏);‏ بتحويلها إلي مطلق يتجاوز حدود الارتباط بأي شروط تاريخية أو معرفية‏...
وغني عن البيان أن هذا التحويل لها إلي أبنية مطلقة إنما يقوم علي تصور لما تحمله من المعني; وعلي النحو الذي يكون فيه هذا المعني من قبيل المعطي الذي يتم تلقيه جاهزا, وليس من قبيل التكوين التاريخي الذي ينتجه البشر في تفاعلهم مع النصوص, علي نحو يعكس إمكان تجاوزه والانتقال منه إلي غيره.

وإذا كان تصور المعني كتكوين ينتجه البشر يقوم علي ربطه بالنظام اللغوي للخطاب من جهة, وبكل من حركة الواقع وأفق القارئ من جهة أخري, فإن تصوره كمعطي يقوم علي اعتباره قصدا لصاحب النص يقوم فيه ثابتا وجاهزا; وبكيفية يكون معها هبة مخصوصة يعطيها صاحب النص لمن يشاء. وبالطبع فإنه إذا كان التصور الأول للمعني كتكوين ينطوي علي تأكيد حركيته وانفتاحه( بما يتفق مع طبيعة الوجود الإنساني), فإن تصوره كمعطي ينطوي علي تأكيد إنغلاقه والسعي إلي احتكاره.
 ولكن الأخطر من ذلك هو أن هذا التباين بين تصورين للمعني إنما يعكس حقيقة أن عالم المعني هو, في حقيقته, ساحة للتصارع الاجتماعي والسياسي. فإذ يكشف تصور المعني كتكوين ينتجه البشر عن الدور الفاعل لهم, فإن تصوره كمعطي يتلقاه البشر جاهزا يكشف, في المقابل, عن محض خضوعهم واستلابهم. ولعل ذلك يعني أن ما يجادل به الساعون إلي احتلال صدارة المشهد السياسي المصري الراهن من أن معني القرآن هو معطي ثابت جاهز تلقاه السلف وصاغوه في أنظمة سلوك واعتقاد لابد من تكرارها الآن, لا يجاوز كونه مجرد ستار يخفون وراءه سعيهم لإخضاع الجمهور والسيطرة عليه.

 وهكذا فإن السعي إلي تثبيت هيمنة السلف كسلطة قابضة علي الرأسمال الرمزي للجماعة الذي يتمثل في المعني الخاص بكتابها الأقدس, ينطوي علي القصد إلي تحصين السعي السياسي لجماعة بعينها وراء سلطة هؤلاء السلف.

والغريب حقا أن هناك من الشواهد الكثيرة ما يدل علي أن ممارسة هؤلاء السلف الذين أريد لهم أن يكونوا قابضين علي نوع من المعني المكتمل الثابت والمتفق عليه للقرآن, لا تشي أبدا باعتقادهم في هذا النوع من المعني المعطي للقرآن. ولعل مثالا لتلك الشواهد يتآتي مما تحتشد به- وبغزارة ملافتة- موسوعات التفسير والفقه الكبري مما يمكن إعتباره تأريخا واسعا لأفكار وآراء الصحابة والتابعين الذين تتشكل منهم النواة الصلبة لجيل السلف. ولعل نظرة علي تلك الأفكار والآراء تتبدي عن ضروب من التباين والتعارض الحاصل بين هذا السلف; سواء تعلق الأمر بفهم آية أو استنباط حكم أو غيره. 

وبالطبع فإن الأصل فيما يقوم بينهم من التباين إنما يجد ما يؤسسه في الأفق المعرفي والاجتماعي الذي يؤطر وعيهم, وفيما عرفه واقعهم من تطور; وذلك فضلا عن الطبيعة اللغوية للخطاب القرآني التي تجعل منه ساحة للاضمار والإجمال والإطلاق والتضمين والتعميم; بل وأحيانا للسكوت وعدم التصريح, وذلك علي النحو الذي إقتضي اجتهادا بشريا في إنتاج المعني, كان لابد أن يتباينوا فيه بحسب ميولهم وانتماءاتهم. ولعل وعيهم بأنهم كانوا ينتجون المعني باجتهاد, ولا يتلقونه جاهزا كاعتقاد, يتجلي فيما كانوا يختتمون به أقوالهم- أو كتاباتهم- من تعبير والله أعلم; الذي يكشف عن روح منفتحة لا تعتقد في امتلاكها لكامل العلم, بل إنها تفتح الباب- بما يعكسه هذا التعبير من إقرارها بمحدودية علمها- أمام الآخرين ليضيفوا اجتهاداتهم إلي- أو حتي علي أنقاض- إنجازها.
 وتأتي المفارقة, هنا, من السعي إلي تثبيت الاعتقاد بأن هؤلاء السلف الذين اجتهدوا في إنتاج معني القرآن, ضمن شروط وعيهم وواقعهم, قد تلقوا المعني علي سبيل الهبة المخصوصة لهم, وأن أحدا بعدهم ليس له إلا أن يقف عند حدود هذا الذي تحصلوا عليه في لحظة فريدة, لا سبيل لتكرارها أبدا.
وكمثال علي أن المعني كان ساحة للاختلاف والقول بالرأي بين الصحابة, فإنه يمكن الإشارة إلي ما أورده أبوبكر الجصاص في أحكام القرآن من اختلاف الصحابة وقولهم بالرأي في عديد من المسائل المتعلقة بأحكام المواريث. يدهش المرء حين يفاجئه الاختلاف حول آيات الأحكام التي يشيع القول إنها من قبيل ما هو قطعي الدلالة, ولكن ماذا بوسعه أن يفعل والرجل يقول:
 وقد إختلف السلف في ميراث الأبوين مع الزوج والزوجة
 يعني إذا مات الزوج وترك الزوجة مع أبويه, أو توفيت الزوجة وتركت الزوج مع أبويها,
فقال علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت:
 للزوجة الربع وللأم ثلث ما بقي, وما بقي فللأب, وللزوج النصف وللأم ثلث ما بقي, وما بقي فللأب.
وقال ابن عباس:
.للزوج والزوجة ميراثهما, وللأم الثلث كاملا من الميراث كله, وما بقي فللأب.
 وقال أي ابن عباس:
 لا أجد في كتاب الله ثلث ما بقي.

 ورغم أن هذا الذي مضي إليه ابن عباس الذي تنسب إليه الروايات أنه حبر الأمة, وترجمان القرآن ودليل التأويل في ضرورة أن تأخذ الأم الثلث كاملا هو- علي قول الجصاص وابن كثير وغيرهما- ما يدل عليه ظاهر القرآن,
لأن الله تعالي يقول:
( فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث),
 فإنه يبدو غريبا انعقاد الإجماع من الصحابة والتابعين علي غير ما يقول به ظاهر القرآن.
 فإن زيد قد أجابه:
 إنما أنت رجل تقول برأيك, وأنا رجل أقول برأيي.
 وإذا كان للمرء أن يتساءل عن أصل الرأي الذي إنحاز إليه زيد ومعه علي قول ابن كثير- معظم الصحابة والتابعين والفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهو العلماء, والذي يقول بما لم يجد له ابن عباس أثرا في كتاب الله, فإنه لن يجد إلا ما تورده المصادر من أنه التقليد الاجتماعي الأبوي الذي يرفض أن يكون للأنثي نصيب من الميراث يربو علي نصيب الرجل.
ولعل المفارقة تتبدي زاعقة حين يلحظ المرء أن الله الذي يتخفي وراءه الساعون إلي إخضاع البشر- وذلك من خلال طردهم من ساحة إنتاج المعني- سيكون, هو نفسه, الذي يؤشر علي جوهرية الحضور الفاعل للبشر في كل عملية الوحي( إنتاجا وقراءة)....وذلك ما يحتاج إلي قول لاحق.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 12 / يناير/2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق