الخميس، يناير 26، 2012

في معني الحدث المصري ودلالته



لعله يمكن القول إن السقوط المدوي لمبارك ونظامه الكابوسي الراكد‏,‏ يتجاوز مجرد كتابة كلمة النهاية لنظام سياسي افتقر إلي الرشد والكفاءة إلي ما يبدو وكأنه محاولة التأسيس الثاني للدولة العربية الحديثة‏,
بعد أن بلغت ـ في صورتها المتحدرة من مطالع القرن التاسع عشر ـ نهايتها البائسة التعيسة التي جسدتها دولة سلاطين العرب من مثل مبارك وصحبه التعساء.


وإذن فإنها مصر مرة أخري....
مصر التي شهدت التأسيس الأول للدولة العربية الحديثة قبل قرنين مع الباشا الطامح محمد علي, وعلي نخبتها الراهنة أن تكون علي وعي بأنها تملك فرصة التأسيس الثاني لتلك الدولة, وإلا فإنها ستكون قد فقدت فرصة تاريخية لن تتكرر إلا بعد وقت طويل.
وإذا كان التأسيس الأول قد ارتبط بما حدث في مصر في العام1805, من نجاح الشعب في إنقاذ إرادته التي يمثلها ما نقله الجبرتي علي لسان الكبار من نخبته يخاطبون محمد علي:
 لانريد هذا الباشا( يقصدون الفاسد خورشيد) حاكما علينا, ولابد من عزله من الولاية.... ولانرضي إلا بك, تكون واليا علينا بشروطنا.
وبالرغم من كل مايقال حول ما فعله محمد علي من تدشين الدولة الحديثة; فإنه يبقي أن الرجل الذي اختاره الناس ليحكمهم بشروطهم, سرعان ما انقلب عليهم, وراح يحكمهم بشروطه التي لم تكن إلابناء دولة القوة, ليتمكن من وراثة إمبراطورية آل عثمان المريضة.

كان الشعب يتطلع إلي دولة الحق, فيما أراد الباشا دولة القوة التي لم يدرك في شعب مصر إلامجرد أدوات ـ أو حتي أشياء ـ يحقق بها حلمه الطموح, ولقد كانت الحداثة الأوروبية ـ التي جاء بها غزاة الشمال يقرعون أبواب مصر التي ظلت موصدة لقرون ـ هي أداته الأخري. علي أن يكون مفهوما أنه لم يكن مطلوبا من الحداثة إلاماتنتجه من سلاح وتقنية, وليس ما أنتجها من إرادة حرة ووعي خلاق.
لن يكون غريبا أن ينسي الباشا سريعا أن توليته كانت من الشعب, بل وأن يهاجر الطهطاوي الذي هو المنظر البارز لدولته ـ بأن ولاية الباشا من الله, وليس من الناس.
(وهنا يشار إلي أن أحدهم قد رفع في إحدي التظاهرات ـ التي جري حشدها لتأييد مبارك في مواجهة جموع الداعين لخلعه ـ لافتة مكتوبا عليها: من اختاره الله, لن يسقطه الخونة).

وليس من شك في أن هذا التغييب للناس, يكشف عن نخبة اختارت الانحياز ـ منذالبدء ـ للدولة علي حساب المجتمع. وبما يترتب علي ذلك من تبريرها ـ إن لم يكن تأسيسها ـ لما تمارسه تلك الدولة من قمع المجتمع والتسلط عليه للآن. إنه التغييب الذي سيتحول معه هؤلاء الناس من فاعلين حقا إلي مجرد عبيد إحسانات دولة الباشا, وذلك بحسب ما سيقول لاحقا أحد ورثة تلك الدولة الجاثمة( وأعني به الخديو توفيق) مخاطبا أحد الداعين إلي وضع حد لاستعباد الناس وإقصائهم.
(هل لأحد أن يجادل في أن دولة مبارك قد ظلت تعامل الأغلبية المسحوقة من جمهورها علي أنهم مجرد عبيد إحساناتها أيضا).

كان التاريخ قد اختار للسيد عمر مكرم أن يشهد, من موقع المشارك, حدث الخلع والتولية الذي أفضي عند مطالع القرن التاسع عشر ـ إلي التأسيس الأول لما بات يعرف بالدولة العربية الحديثة, فإنه قد أراد له, من موقعه كمراقب يطل علي الجماهير المحتشدة أسفل تمثاله في ميدان التحرير, أن يشهد خلع مبارك وتولية غيره, منتظرا, بالطبع, أن يفلح أحفاده في تأسيس دولة الحق التي أخفق, ومعه أجدادهم, في تدشينها قبل قرنين, وأن يتمكنوا من ضبط وترتيب نظام يكون معه الحاكم حاكما عليهم بشروطهم, وليس بشروطه كما حدث قبلا.

وبالطبع فإن التأسيس لدولة الحق علي حساب دولة القوة القامعة, لن يكون ممكنا إلا عبر تجاوز الخطاب الذي ساد علي مدي القرنين المنصرمين, إلي خطاب يؤسس لدولة حديثة حقا; وأعني التحول من خطاب لم تفلح كل زركشات وزخارف الحداثة علي سطحه, في أن تغطي علي جوهره الوصائي الأبوي التسلطي الذي يؤسس لما يسود من علاقات الإذعان والخضوع, إلي خطاب ذي أفق عقلاني يؤسس لعلاقات التفاعل والحوار والندية التي هي الأصل في ما يتطلع إليه الكافة, في العالم العربي, من دولة المواطنة المدنية, كبديل للدولة الطائفية العشائرية الأبوية الاستبدادية الراهنة. ولسوء الحظ, فإن الممارسة الغالبة علي النخبة المصرية جميع شرائحها تكشف عن عدم قدرتها, حتي الآن علي الأقل, علي الإمساك بضرورة هذا التحول وجوهره.

فإن متابعة لما يتجادل به الفرقاء علي الساحة في مصر تكشف عن استمرار
سطوة خطاب دولة القمع في العمق, برغم كل ما يبدو مغايرا لذلك عند السطح. ولعل ذلك يستلزم تعرفا علي الجوهر العميق لهذا الخطاب من جهة, وبيانا لكيفية استمراره في الممارسة الراهنة من جهة أخري. يتمثل الجوهر العميق للخطاب في غلبة الطابع الأداتي علي تعامله مع كل من الحداثة والمجتمع في آن معا; وبمعني أنهما كانا مطلوبين كمجرد أداتين لبناء دولة القوة, حيث أراد الخطاب من الحداثة قوتها من دون عقلانيتها, وأراد من المجتمع قوة عمله من غير أنوار وعيه. ومن هنا فإنه لم يجاوز حدود السعي إلي تركيب قشرة حداثية هشة( تستعار جاهزة) فوق بنية تقليدية ضاربة الجذور. وغني عن البيان أن الحرص علي إبقاء المجتمع تقليديا في الأسفل إنما يرتبط, وعلي نحو جوهري, بتصوره كمجرد أداة لتشغيل عناصر القوة المستفادة من الحداثة.

ولسوء الحظ فإن الجميع لا يزالون يمارسون علي نفس النحو الأداتي. بل إن جماعات الإسلام السياسي التي اختارها المجتمع لإدارة شؤونه في الانتخابات الأخيرة, هي وللمفارقة ـ الأكثر رسوخا في الاشتغال بهذا المنطق الأداتي, وذلك إبداء من حقيقة أن خطاب هذه الجماعات هو محض نسخة معاصرة من رؤية دينية تقليدية تنبني علي مفهوم الفاعل الأوحد الذي يقف بالبشر عند حد كونهم مجرد آدواته التي يفعل بها.
وحين يضاف إلي ذلك أن المخاصم الأكبر للحداثة سيد قطب قد تسامح ـ في معالم في الطريق ـ مع الجانب الأداتي( العلمي التقني) منها, فإن بإمكان المرء أن يدرك مدي عمق تجذر الأداتية في بنية خطاب تلك الجماعات. ومن هنا ما يلزم التأكيد عليه من أن هذا الخطاب لا يمثل خروجاً من المأزق الراهن, بقدر ما يمثل تكريساً له.

يستلزم الأمر نقداً معرفياً, وليس إيديولوجياً, لخطاب تلك الجماعات علي نحو يكشف عن كونه يمثل امتداداً, من جهة, لخطاب دولة القمع التي يثور عليها الناس, ولرؤية دينية تقليدية لطالما تخفي وراءها الاستبداد من جهة أخري. ويخشي المرء أنه من دون هذا الاشتغال النقدي علي الخطاب, فإن مصر, ومعها العرب لن يفعلوا إلا أن يحرثوا البحر من جديد.

تم النشر في جريدة الأهرام 26 /يناير /2012




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق