الجمعة، يناير 06، 2012

د. على مبروك: العقلانية «فريضة غائبة» فى ثقافتنا



فى الجزء الاول قدم على مبروك رؤيته حول منهج الا شاعرة
وفى الجزء الثانى من الحوار يقدم رؤيته حول تسرب الفكر الشعرى الى العقلانية العربية عند المعتزلة وعند ابن رشد
على مبروك المفكر المصرى لا يقرأ التراث ليهجوه او ليهدمه
 بل يقرؤه ليفهم لماذا ساد نمط من التفكير فى ثقافتنا العربية منذ الاشعرى حتى الان، ولماذا سادت الديكتاتورية العربية ولبست مسوحا دينية؟
 وكيف وظفت السلطة الخطابين الدينى والفكرى فى الاسلام لمصلحتها سواء كانت السلطة أموية أو عباسية أو حتى حداثية
ومن هنا لا يمكن وصف ما يقوم به الدكتور مبروك باعتباره تفسيرا يسارياً للإسلام.

- كيف نقرأ تاريخ العقل فى الاسلام،
 وهل يمثل المعتزلة ذروة سنام العقلانية العربية؟
ـ لم يكن انشغالى بسؤال العقلانية بحثاًعن نتاجات العقل فى التراث،
 بقدر ماكان محاولة لفهم الغياب الراهن للعقل فى عالمنا العربي.
فأنا مشغول بالتراث لافهم الواقع، وماهو سائد- حتى الآن- من طرائق التفكير وانتاج المعرفة.
ولعل ذلك يرتبط بحقيقة أن الأزمة التى يعيشها العالم العربى هى رغم الثورات المشتعلة الآن ـ إنعكاس لأزمة «عقل» بالأساس.
 وخلال الغوص فى التراث لفهم العقل السائد فى المشهد الاسلامي، تبيَّن لى أن هذا العقل (اتحدث عنه كتكوين فى لحظة تاريخية معينة) يحمل ملمحاً أساسياً يتمثل فى أنه عقلٌ مقيد بسلطة النص؛
حتى لقد قال عنه أبوإسحاق الشاطبي:
«فالعقل غير مستقل ألبتة، ولا ينبنى على غير» أصل» على الإطلاق، وإنما ينبنى على «أصل» متقدم مُسلَّم على الإطلاق».
وإذن فإنه عقل التفكير بالأصل الذى تناسل منه العقل الذى يحكم طريقة تفكيرنا الراهن، والذى أسميه «عقل التفكير بالنموذج» وبصرف النظر عما إذا كان هذا النموذج من أصل (حداثي)، أو (تراثي).
هكذا يشتغل عقلنا بنموذج جاهز يعجز من دونه عن إنتاج أى معرفة. وهذا العقل الذى لا يعرف الإستقلال قام على بنائه كلٌ من الشافعى والأشعرى
(الرائدان الكبيران فى علمى أصول الفقه والدين).
ومع التقدير الكامل لما أنجزاه فى الفقه والعقيدة، فإن لهما الدور الأكبر فى بناء العقل الذى نفكر به حتى الآن. 

- ولكن قواعد التفكير فى الاسلام بدأت قبل الشافعى والاشعري؟
فعمر بن الخطاب الغى حد السرقة فى عام الرمادة لأن حق الحياة مقدم على حق الملكية
ـ هذا صحيح، ولكن هذه القواعد التى يمكن وصفها بأنها كانت منفتحة إلى حد كبير، قد جرى تهميشها وإقصاءها على نحو كامل.
فالصحابة كانت لهم طريقتهم فى التفكير فى الفقه التى إنفتحوا فيها على كل معطيات الواقع والتاريخ، والثقافة، وإستوعبوها إستيعاباً مبدعاً راحت معه تلعب دورا حاكماً فى تشكيل المنظومة الفقهية.
 لا يبدو الأمر عندهم نزولاً فى إتجاه واحد من «النص» إلى «الواقع» على النحو الذى تثبت به «الحاكمية» للنص، بل صعوداً من «الواقع» إلى «النص» ثم نزولاً إليه على النحو الذى يثبت جدلية العلاقة بينهما.
هكذا راح يفكر الصحابى الجليل عمر بن الخطاب فى الفقه، وإلى الحد الذى راحت معه حركة الواقع تحدد مدى فاعلية الحكم الشرعى الثابت بالنص.
 حدث هذا عندما أوقف العمل بحد السرقة فى عام الرمادة، إستناداً إلى أن حق الحياة (الذى يبرر للجائع أن يسرق حفاظاً على حياته)
هو الأهم من حق الملكية (الذى شُرِعَ حد السرقة لحمايته).
 وهكذا فعل أيضاً بسهم المؤلفة قلوبهم حين أدرك أن تغييراً حدث إنتقل معه الاسلام من حال الضعف إلى القوة، يستلزم وقفاً لصرفه لهؤلاء الذين لم يكن من سبيل لضمان ولائهم للإسلام فى أول عهده إلا بهذا السهم المدفوع لهم.
ولابد من التأكيد على أن «النص»، فى هذا النمط من التفكير المنفتح، لا يكون سلطة قامعة مهيمنة، بل ساحة مفتوحة لإنتاج معرفة خلاَّقة مبدعة.
أو نقطة إبتداء لمعرفة مفتوحة، وليس أبداً نقطة إبتداء ومنتهى لمعرفة لا يمكن إلا أن تكون مغلقة بمثل سيصبح لاحقاً مع الشافعى الذى أتحدث عنه هنا كمؤسس للأصول، وليس كصاحب مذهب فقهي.
وهكذا كان الأمر فى العقائد أيضاً التى إنفتح التفكير فيها، منذ البدء، على الواقع السياسي، وذلك بحسب ما سيظهر فى مجرد تسميات الفرق الأولى كالخوارج والشيعة والمعتزلة والمرجئة التى تكاد جميعاً أن تكون إشتقاقات من مواقف سياسية،
ثم جاء الأشعري، ليفعل فى العقائد ما فعل الشافعى فى الفقه؛
وأعنى من حيث تدشينه لطريقة الإستدلال بالنص. وهكذا نقل الرجلان التفكيرمن مساراته المنفتحة على الأبعاد كافة، إلى الإنغلاق على النص وحده.

- حركة الشافعى والأشاعرة كانت حركة فى الواقع تحت ضغط السياسة ذاتها دفاعا عن العقيدة؟
ـ لا يمكن إغفال دور السياسة، فى بناء الظاهرة الفكرية
وفى كل ما يطرأ عليها من تحولات.
وقد كان الشافعى كان فى كتابه الأساسى «الرسالة» يتجاوب مع مطلب سبق أن طرحه ابن المقفع (المنظِّر الايديولوجى للخليفة العباسى ابى جعفر المنصور)
عن ضرورة توحيد السلطة الفقهية فى كل أمصار الدولة،
 لكى لا تكون التباينات الفقهية بين فقهاء الأمصار والمدن
(حيث كان لكل مدينة فقيهها وفقهها) عبئاً على الوحدة السياسية للدولة.
وقد إقترح إبن المقفع أن يتم تعميم كتاب «الموطأ» للإمام مالك على كل الأمصار. والغريب أن مالك نفسه رفض هذا التعميم لكتابه مؤسساً رفضه على أن مدونة أحكامه الشرعية ترتبط بتقاليد وأعراف أهل المدينة؛
التى تختلف عن تقاليد وظروف البيئات الأخري.
 وأن هذه الأحكام التى تتجاوب مع ظروف أهل المدينة قد لا يكون من الميسور على أهل البيئات الأخرى التجاوب معها.
 وإذ لا مجال فى كتاب الشافعى «الرسالة» لواقع أو أعراف وتقاليد تؤثر فى الحكم الفقهى الذى ينبنى على «النص» وحده؛
 وعلى النحو الذى يحول دون تعدد وتباين الأحكام الفقهية، فإنه يبدو وكأن عمل الشافعى (الأصولي) هو بمثابة إستجابة لمطلب الدولة العباسية الخاص بتوحيد المنظومة الفقهية.

- ولكن الفقه ظل متأثراً بمناطق انتاجه؟
ظل الفقه دائماً مرتبطاً بالبيئات التى نشأ فيها؛
فالبيئات الصحراوية أنتجت فقهاً مختلفاً عن ذلك الذى أنتجته البيئات الحضرية.
 لكنه يبقى أن أصول الفقه- التى هى طريقة التفكير فى الفقه- هى شيئٌ آخر غير الفقه؛ وهو ما يؤكده أن الشافعى لم يغيِّر أصول تفكيره فى الفقه رغم تغيير بعض أحكامه الفقهية بعد إستقرار المقام به فى مصر.
 فقد ظل لا يرى إمكانية للتفكير فى الفقه بمعزل عن سلطة «النص»، وبالطبع فإن كون النص واحداً لابد أن ينتج حكماً واحداً
 (وفقط يقع الخلاف- على قوله - فيما ليس فيه نص لازم، وهو الذى نضطر فيه للقياس وللقياس عنده وجهين: أحدهما أن يكون الشيئ فى معنى الأصل المنصوص عليه، وهذا قياسٌ لا يختلف بشأنه الفقهاء. إنهم فقط يختلفون فيما لا يكون فى معنى الأصل، بل تكون له فقط أشباه ونظائر فى الأصول المنصوصة، وهنا قد يختلف الفقهاء فى تعيين ما هو الأكثر شبهاً منها به ليتم إلحاقه به).
وأعتذر عن إستخدام لغة الشافعى الثقيلة لبيان مدى هشاشة الإختلاف عنده؛ حيث لا يتعدى دائرة ما ليس له فى الأصول إلا أشباه. 
ولأنك أشرت فى سؤالك إلى أن الأشعرية نشأت تحت ضغط السياسة فإنى أوافق على ذلك مؤكداً أن إنبثاق الأشعرية 
كان إستجابة بالمثل لمطلب سياسي، يتمثل فى إحتياج الدولة العباسية إلى غطاء عقائدى تغطى به ممارستها السياسية التى اتكأت فى مراحل سابقة على المعتزلة ثم الحنابلة ثم إصطدمت بهما، فصارت فى حاجة إلى عقيدة تستند إليها وهنا جاءت الأشعرية.

- تلح على رفض التقيد بالنص ما قد يفسره البعض على أنك ضد الأصل، او النص؟
المشكلة ليست فى الأصل، ولكن فى كيفية حضوره؛
وأعنى هل يحضر كسلطة ينبغى على العقل أن يخضع لها، أم أنه يحضر كنقطة بدء ينطلق منها العقل فى سعيه لإنتاج معرفة بواقعه.
 وبحسب ذلك، فإن الأمر لا يتعلق برفض الأصول والدعوة إلى إلغائها، بقدر ما يتعلق بالسعى إلى التفكير فى علاقة جديدة معها؛
على نحو تكون معه ساحة لإنتاج فهم ومعرفة فاعلة بالعالم، بدل حضورها الراهن كقيد يمنع العقل من التفكير فيها وفى العالم.
 وبالطبع فإن الأمر لا يتعلق بالأصول الدينية المقدسة فقط، بل بكل ما يتم وضعه كأصل يجب أن يخضع له الناس حتى ولو كان من صنع البشر.
ولعلى أشير، هنا، إلى أن نقد الشافعى والأشعرى نقدٌ لطريقتهما فى بناء العلاقة مع الأصول، وليس نقداً للأصول ذاتها.
 وإذا كانت الأصول فوق النقد (بسبب مصدرها المتعالي)، فإن كيفية بناء العلاقة معها تبقى أمراً قابلاً للنقد (لأن صانعيها بشر).
وهذا النقد الأخير واجبً لفتح الباب أمام الأصول لتتجاوب مع المعطيات المتغيرة للواقع.

- المعتزلة
- المعتزلة ـ فرسان العقل ـ كيف قرات خطابهم؟ وكيف تحولوا ليصبحوا سلطة تماهت مع سلطة الدولة العباسية؟

ما يلفت النظر فى المعتزلة إنتماؤهم إلى الشرائح المُهمشة إجتماعياً؛
وذلك بحسب ما يظهر من الألقاب التى تضفيها كتب الطبقات إلى أسمائهم.
 فهم منسوبون الى مهن رقيقة؛ فمنهم الإسكافى والنظَّام والعلَّاف والفوطى والكعبى الامر الذى يكشف عن إنتماء إجتماعى للطبقات الفقيرة.
ولعل ذلك هو السبب فى إنحيازهم لفكرٍ ينطلق من الواقع سعياً إلى تغييره.
وفضلاً عن الإنسحاق الإجتماعى عانوا أيضاً من الإنسحاق السياسى بوصفهم من الموالى الذين عانوا من نظرة الأمويين العنصرية ضد كل ما هو غير عربى
 (العروبة هنا بالمعنى القبلي).
ولعل هذا الإنسحاق الذى عانى منه المعتزلة (اجتماعياً وسياسياً) هو ما يقف وراء إلحاحهم على قدرة الإنسان على التحكم فى مصيره، فقد أدركوا أن سعياً لتغيير الواقع يستلزم تصوراً للإنسان مالكاً لإرادته وخالقاً لفعله؛ ما يعنى أن تصوراتهم العقائدية إرتبطت بسعيهم إلى تغيير الواقع السياسى والإجتماعي.
 فقد كانت هذه التصورات هى الأساس الذى راحوا يدافعون به عن وجودهم وهويتهم؛ وهو دفاع يستند إلى موقف إسلامى يرفض العنصرية ويجعل الناس سواسية لا تمايز بينهم إلا على أساس ما يصنعه الفرد بنفسه، وليس بما يوفره له حسبه ونسبه.
إن المهم هنا هو أن الواقع- والسعى إلى تغييره ـ كان محور تفكير المعتزلة؛ وعلى النحو الذى كانت معه الأصول-النصوص الدينية - نقطة بدء فى مقاربة الواقع، ولم تكن سلطة تفرض نفسها عليه.
أما ما أشرت إليه من علاقتهم بالسلطة، فإنه ورغم الإتفاق على التوظيف السياسى للمعتزلة فى مواجهتهم مع خصومهم من الشيعة الباطنية بالذات،
 فإن الأمر الحاسم، فى هذا الإطار، هو أن خطاب المعتزلة يبقي، فى جوهره، بعيداً عن أن يكون سلطوياً. 

- الادبيات التاريخية تعزو نشأة المعتزلة إلى خلاف فقهى حول « مرتكب الكبيرة»؟
لا يغيِّر ذلك من حقيقة إرتباط نشأة الإعتزال، بالسياسة، لأن الخلاف حول مرتكب الكبيرة كان خلافاً حول مسألة سياسية؛ حيث «الكبيرة» التى نشأ الخلاف حولها كانت كبيرة «القتل السياسي» الذى تسببت فيه المقاتل التى نشبت بين المسلمين.
وكان الخلاف، حول الحكم فيمن إقتتلوا فى حروب المسلمين؛ وهو حكم يستلزم تقييماً للموقف السياسى لهؤلاء المتصارعين.
 وما تتفق عليه المصادر من إعتبار المعتزلة «أهل العدل والتوحيد» كاشفٌ - إذ يضع «العدل» (بدلالته السياسية والإنسانية) سابقاً على «التوحيد» (بدلالته الدينية)،
 عن أن الإنشغال بالسياسى كان الغالب على المعتزلة.
 فخطابهم خطاب «العدل» الذى يقدر معه المرء بما هو مالكٌ لإرادته وصانعٌ لفعله على أن يحقق ذاته فى عالمٍ عادل تتكافئ فيه فرص البشر وتتعادل حظوظهم. فالدفاع عن العدل هو دفاعٌ عن المساواة وعدم التمييز. 

- ولكن المعتزلة تحولوا الى سلطة فى ايدى العباسيين؟
أشرت قبل ذلك إلى أنه تم توظيف الاعتزال سياسياً لخدمة العباسيين.
 لم تكن للمعتزلة إرادة فى هذا التوظيف، بل كان ذلك قرار دولة ترى أن لها الحق فى إستثمار من تشاء لخدمة مصالحها.
وعلى أى حال، فإن ما يقصد إليه الإعتزال من بناء الفرد الواعى المالك لمصيره، والمحقق لذاته بما يمتلك من قدرة على الإختيار والفعل قد يصعب قبوله والتجاوب معه من جانب الكثيرين الذين لا يقدرون على تحمُّل التبعات الجسيمة لإختياراتهم، ويفضلون الإنخراط تحت إمرة سلطة قابضة تقرر لهم وتختار.
 وحين ندرك أن الشعوب لا تزال تمارس على هذا النحو للآن، فإنه يمكن فهم الإستجابة الرافضة للإعتزال من جانب قطاعات واسعة من المسلمين فى القرون الهجرية الأولي. 

- هل نحن امام احد تجليات نظرية الجام العوام؟
لا يمكن القول أن الخطاب المعتزلى كان خطاب «إلجام للعوام» وإسكاتهم،
 لأنه، وبحسب ما تكشف نشأته بين طوائف المُهمشين، كان يسعى إلى إحضار هؤلاء العوام المُهمشين إلى الساحة.
 وعلى العكس، فإن مفهوم «إلجام العوام» إنبثق وتم تداوله بكثافة داخل الدوائر الأشعرية ولا يصح القول أن الخطاب المعتزلى يتعالى على الجماهير التى راحت تقابل هذا التعالى بالنفور منه،
وذلك لأن نفورها منه إنما يرتبط بعجزها عن تحمُّل التبعات التى يفرضها عليها تبنيه (من المسؤولية والوعى والإرادة والقدرة).
 وإذ لا مجال ضمن الإعتزال لإلجام العوام، فإنه لا تفسير لعدم تجاوب الجمهور معه إلا فى «سيكولوجية الجماهير» التى تنفر من تكليف المعتزلة لهم بما لا يطيقونه.
قد تصوغ خطاباً يبغى تحرير العوام، ولكن العوام لا يتجاوبون معه، بسبب ما يفرضه عليهم من تبعات تحمُّل مسؤولية إختياراتهم؛
وبما يعنيه ذلك من ضرورة إمتلاك الوعى والإرادة.
وهو ليس بالأمرالسهل؛ وخصوصاً مع الترويج لهذا النزوع إلى إمتلاك القدرة على الإختيار والفعل على أنه خروج عن صحيح الدين، وهذا ما لابد أن يباعد العوام عن الخطاب الذى يسعى إلى تحريرهم بالأساس.
يبقى التأكيد على أن توظيف السلطة العباسية للخطاب المعتزلى لم يجعل منه خطاباً سلطوياً؛ حيث ظل محتفظاً بثوابته من التأكيد على حرية الإرادة والقدرة على الفعل. ولكن ما سيحيله إلى خطاب سلطوى حقاً هو ما سيحدث لاحقاً من إنسراب الأشعرية إليه، وإختراقها لنظامه وقد حدث ذلك متأخراً (فى نهايات القرن الرابع الهجري) مع القاضى عبدالجبار؛ الذى يبدو متراجعاً فى الكثير من أفكاره عن سابقيه. 

- ما هى الامثلة على هذا التراجع؟
كثيرة هى العلامات التى تؤكد هذا التراجع،
 ومن بينها ما أحدثه من قلب ترتيب العلاقة بين العدل والتوحيد.
 إذ فيما كان «العدل» يأتى سابقاً على «التوحيد» عند المعتزلة الأوائل، فإن القاضى عبدالجبار سيجعل «التوحيد» سابقاً على «العدل»؛
 وذلك بحسب ما سيظهر فى عنوان كتابه «المغنى فى أبواب التوحيد والعدل».
 وفى ذلك كان متأثراً بأشعريته الأولى التى نشأ عليها ثم تحول منها إلى الإعتزال، ولكنها لم تفارقه ً فيما يبدو.
 ومن جهة أخري، فإنه إذا كانت عقلانية المعتزلة الأوائل تجلَّت فيما صاروا إليه بخصوص المعجزة مثلاً، من أن النبى ليس فى حاجة إلى معجزة حسية ملموسة يؤكد بها صدق نبوته، بل يكفي - سلامة شرعه وخلوه من التناقض.
 ويرفض القاضى عبدالجبار هذا التصور العقلانى للمعجزة، ليعيد إنتاج القاموس الأشعرى بخصوصها.
 وبالطبع فإنه لن يكون غريباً أن يتجه االاعتزال، مع القاضى عبدالجبار وورثته، إلى المزيد من السلطوية؛ وبحيث تكتمل دائرة السلطوية التى لا تزال تعيد إنتاج نفسها للآن، وإن من تحت براقع الحداثة وإكسسواراتها.
ولعل قراءة لما جرى آنذاك يمكن أن تساعد فى ادراك آليات إختراق خطاب السلطة للخطابات المعارضة، وتحويلها إلى مجرد آدوات يستخدمها فى تثبيت حضوره المؤبد. وقد تعدى إختراق الخطاب الأشعرى للخطابات المعارضة الى الخطاب الشيعى أيضأً؛ الذى لم يفعل إلا أن راح يعيد إنتاج الأشعر ية، ضمن دائرة أخري.

- الشيعة يقولون بولاية الفقيه، ويرفعون الأمام الى مصاف الأنبياء بينما الأشاعرة لم يقولوا بهذه النظرية؟
فى الحقيقة لا فرق بين الشيعة والأشاعرة فيما يتعلق بسلطوية الخطاب،
 فإذا كان الشيعة جعلوا الإمامة إختياراً إلهياً لا دخل للناس فيه، فإن «الغزالي»- وهو الأشعرى الكبير-
 يقول فى كتابه «فضائح الباطنية»: لا ينبغى أن يتصور الشيعة أن أهل السنة لا يردون الإمامة إلى الله مثلهم، بل إن أهل السنة، متشددون أكثر من الشيعة فى رد الإمامة إلى الله، وأنهم ينسبونها إلى البشر على سبيل المجاز، وليس على سبيل الحقيقة.
بمعنى أن البشر يختارون الإمام مجازاً، أما فى الحقيقة فإن إختياره يكون من الله.
 وهكذا فإن كل تدخل من البشر (ممثلين فى أهل الحل والعقد مثلاً) فى إختيار الإمام، هو تدخل مجازى.
إن الغزالى يستعير نظرية «الكسب» التى تجعل الفعل منسوباً إلى الله فى الحقيقة، وإلى الإنسان مجازاً، ويستخدمها فى مجال الفعل السياسي؛

- النص الممكن
- مشكلتنا مع المعتزلة أن خطابهم الأساسى مفقود وأن ما نقرأه عنهم منقول من الخطاب النقيض لخصومهم؟ كيف عالجت هذا الامر فى دراستك لطروحات المعتزلة؟

ـ هذه مشكلة حقيقية، وخصوصاً أنه ليس لدينا إعتزال واحد.
 فهناك المعتزلة الأوائل الذين تعرضت نصوصهم للتهميش والضياع، وهم يتميزون عن المعتزلة المتأخرين الذين تتوافر نصوصهم،
 ولكنهم أقل تعبيراً عن روح الإعتزال الأولي.
 بل إن نصوصهم تكاد تكشف عن الكيفية التى فقد معها الإعتزال بريقه وأصالته بسبب الإختراقات الأشعرية.
 وهكذا فإن المشكلة التى يعرضها سؤالك تتعلق فقط بكتابات المعتزلة الأوائل؛ ما جعل الباحثين يلجؤون لكتابات الخصوم للتعرُّف عليها.

ـ وماذا فعلت فى قراءتك للفكر الاعتزالى مع غياب النصوص؟
- بدأت أطور ما أسميه مفهوم «النص الممكن» الذى يعنى أن يمارس الباحث فى التاريخ الفكرى ويصادف مشكلة النصوص المفقودة، على طريقة الباحث فى التاريخ الطبيعى للكائنات الحية.
 فإذ يقوم هذا الباحث الأخير حين يعثر على هيكل لأحد الحيوانات المنقرضة بإعادة تركيب هذا الهيكل،
وبحيث أنه إذا حدث ولم يعثر على بعض أجزاء هذا الهيكل، فإن بإمكانه تصور الهيئة التى كانت عليها تلك الأجزاء المفقودة، إبتداءً مما يفرضه عليه البناء العام لهيكل الكائن من جهة، ومن إدراكه للهيئة التى أصبح عليها هذا الجزء المفقود فى الكائن الحى الذى تطور عن الكائن المنقرض.
وهكذا يقوم الباحث بتشكيل الجزء المفقود من الهيكل، لا على نحو يتعلق بمزاجه ، بل طبقاً لشروط موضوعية تتعلق بما يفرضه شكل البناء الكلى للكائن، وبما يفرضه التطور اللاحق للكائن.
وبالطبع فإنه يمكن القول عن الجزء المفقود الذى يقوم الباحث بتشكيله ليصبح هيكله مكتملاً أنه «الجزء الممكن».
 وعلى نفس الطريقة يمكن أن يعيد الباحث فى تاريخ الفكر بناء النصوص المفقودة، فى ضوء وعيه بالهيكل الفكرى العام الذى ضاعت بعض نصوصه من جهة، وبالتطورات اللاحقة لهذا الهيكل الفكرى من جهة أخرى
 (حتى لو كانت تلك التطورات تظهر فى نصوص الخصوم).
 وبالطبع فإنه لا يمكن القول أن هذا «النص الممكن» نصٌ يختلقه الباحث على هواه، لأن الباحث يكون مُقيَّداً بشروط موضوعية تقوم خارج ذاته.
 إن النص يكون ممكناً بسبب توافقه مع الهيكل الموضوعى العام للخطاب المعتزلي، وليس بسبب إفتراض الباحث له. 
"نظرية النص المكن تحتاج الى استبيان طويل وجدل ليس مجاله هذاالحوار ولذلك نرجئها الى حوار اخر"

ـ قد افهم ما تقوله عن الاشاعرة ونسبهم، وتسربهم إلى المعتزلة لكن أن تقول فى مقالك المنشور فى مجلة الف إن خطاب ابن رشد كان أشعريا فهذا ما لا افهمه ـ وربما لا أصدقه؟
اعمل على مشروع قراءة لتراث الفلسفة الأسلامية الذى تمثل فى تراث الأربعة الكبار: الكندى والغزالى وابن سينا وابن رشد.
وهناك قراءة تميل إلى انقسام هذا الارث إلى مدرستين
 الأولى هى الافلاطونية نسبة الى افلاطون فى صيغتها الاسلامية ويمثلها الغزالى وابن سينا،
 والثانية تمثل الأرسطية
(نسبة الى ارسطو) ويمثلها الكندى وابن رشد، وأنا ارفض هذا المفتاح اليونانى للقراءة وارى أن المفتاح الاساسى هو القسمة بين منظومتى السنة والشيعة اللتين تربى عليهما الفلاسفة قبل ان يتعرضوا للفكر اليوناني
عندما تكلمت عن العقل الذى ساد فى الإسلام بشكل أساسى وان السمة الأساسية الغالبة عليه إنه عقل تفكير بالنص وهو ما تطور بعد ذلك مع مايسمى بحقبة الحداثة العربية إلى عقل تفكير بالنموذج الغربى الجاهز أو النموذج الليبرالى أو النموذج القومى أو إلى آخر النماذج اللى انشغل بيها العرب
عند الكلام عن ابن رشد نكتشف انه لم يستطع ان يكسر هذا النموذج،
ولكنه تحول من نموذج أو من أصل إلى أصل آخر فقد دشن ارسطو تحديدا باعتباره الأصل الذى تتأسس عليه عقلانيته
ولابد ان نميز بين العقلانية كنظام أو العقل كنظام وبين العقل كمضمون،
 ربما تجد هنا أو هناك بعض نظرات عقلانية فى عمل ابن رشد لكن هذا سيظل من قبيل عقلانية المضمون.
وهذه الشذرات العقلانية يمكن ان نجدها عند الأشعرى نفسه
وما أريد ان أوجه اليه هو ان النموذج الأساسى الذى اشتغل عليه العقل السائد فى الإسلام هو عقل أشعرى فى بنيته وفى نظامه
 وهو نفسه العقل الذى اشتغل به حيث يتعامل مع ارسطو باعتباره اصلا
وجعل قضيته الفلسفية بشكل أساسى تنقية ارسطو
مما يتصور إنه تحريفات دخلت على ارسطو
 ولابد من استعادة ارسطو الاصل وهذا منهج أشعرى بامتياز كما أن ابن رشد يعتبر ارسطو آخر أو أعظم عقل حقق الكمال للإنسان
 فبماذا يختلف هذا القول عن قول سلفى على الجبهة الأخرى الذى يقول أن النص الإسلامى أعظم وارقى وأكثر النصوص عقلانية وهو الذى لابد ان يبدأ منه كل تفكير وينتهى اليه.
 بهذا الشكل نكتشف إن ابن رشد ربما لم يقدر على كسر نظام العقل الذى ساد فى الإسلام واحتفظ بنفس بنية هذا العقل 


- كيف تفسر اذا تقديم ابن رشد على اساس انه رائد العقلانية العربية او الاسلامية؟
أرى أن ابن رشد أو الأشعرى تتم قراءتهما فى الثقافة العربية المعاصرة

 بطريقة تجزيئية تهدر فى الغالب السياقات التى كتبت فيها طروحاتهما تهدر مفهوماً
 مهما فى القراءة هو مفهوم كلية النصوص
 فالافكار بنية لها نظام لا يمكن الاحاطة بها عبر هذه النزعة التجزئية
واللافت ان النظرة التجزيئية فى القراءة احدى تجليات الفكر الاشعرى الذى تقوم نظرته للعالم على هذا التفتيت والانفصال بين ظواهره فـعندما تحاول التفتيت إلى منهج فى القراءة فـكأنك تحول الاشعرية إلى ظاهرة تتخلل تقريبا كل مسعى انساني.
وفى تصورى هذا أمر خطر
 وفيما يقال عن عقلانية ابن رشد ينسى الدارسون انه تبنى الهراركية اليونانية
التى تقسم الناس إلى ثلاثة طبقات أساسية،
طبقة العوام
 وطبقة الفلاسفة أو اهل الجدل وهى طبقة ارقى من العوام وتقف بينهم وبين الحكام
على راس هذا الهرم، والطريقة التى تعامل بها مع العوام وحتى مع أهل الجدل قائمة على شكل من أشكال الاقصاء والإستبعاد الكامل
 إذ دعا ابن رشد الى ضرورة حجب العوام والجامهم عن التأويل لأن اشتغالهم بهذه المسائل ربما يكون ضاراً بهم وأعتقد أن هذه المقولة ترددها كل الأنظمة العربية بلا استثناء اذ تعمل على اقصاء الجماهير عن الإنشغال بالشؤون العامة.
وفى ظنى فان مسألة عقلانية ابن رشد تحتاج الى اعادة التفكير فيها بشكل عقلانى 

- سؤالى عن اسباب استدعاء ابن رشد من الذاكرة لاقامة نصب العقلانية دائما؟
أنا أقدر إن هناك مفكرين عرب يحاولون تدشين خطاب عقلانى فى واقعنا الحالى ويتكئون فى محاولاتهم على نموذج رشد
واريد ان انبه الى إن هذا الاتكاء قد لا يكون فى محله اذ لابد ان نكون واعين على الأقَل بحدود هذه العقلانية الرشدية.
وهذه القراءة لعقلانية ابن رشد تعولمه اى تجعله جزءا من ظاهرة معولمة،
 لكنها تنسى شيئا مهما هو إن هذه العقلانية لها وظيفة اجتماعية وتاريخية
 ولا اتصور ان مهمة العقلانية ان تساعد السلطة على الفهم وهذا هو الدور الذى كان مطلوبا من ابن رشد إن يلعبه
 ان يشرح للسلطة أو يفسرلها ما يغمض عليها وان يشرح لها ارسطو كرفاهية ثقافية. ومسألة ان ابن رشد حافظ على العقلانية الاغريقية
التى استلمتها منه اوروبا فى وقت ما واستطاعت إن تبنى عليها عقلانيتها
 تحتاج الى مراجعة لان اروربا بنت عقلانيتها ضد ارسطو وبتجاوز منطقه الذى حافظ عليه ابن رشد.
والكتاب المشهور لابن رشد" فصل المقال فى ما بين الحكمة والشريعة من اتصال". نكتشف عند قراءته إن ابن رشد يستعير من الغزالى استعارات واسعة جداً ليس من قبيل نقد هذه الأفكار وإنما يستعير هذه الأفكارليبنى عليها
ـ ومازلنا فى حاجة إلى ان نفتح قوساً حول العقلانية الرشدية ونعيد قراءتها من جديد - 

هل يمكن اعتبار ابن رشد نموذجاً سياسياً لدور المثقف فى خدمة السلطان؟
الإتجاه السائد لدى قطاع عريض من المثقفين واقع فى قبضة السلطان بشكل دائم
ولا يجد لنفسه عملا إلاخدمة السلطان
وفى درس ابن رشد بإعتباره نموذج للمثقف الذى خدم الدولة يهمنى أن أعرف ماذا فعلت دولة السلطان مع مثقفها
 فبرغم أن ابن رشد قام بدوره بمنتهى الأمانة ومنتهى الإخلاص
 ومع ذلك عندما اشتمت الدولة إن ارتباطها به يمكن ان يؤدى إلى مشكلة لها ضحت به بمنتهى السهولة
ويظل هناك اسماء على مدى التاريخ الإسلامى من المثقفين والفقهاء وجدوا لأنفسهم ادواراً غير خدمة الدولة وانحازوا لللجماهير ونشير هنا إلى عمر مكرم الذى اراه ممثلاً لنموذج المثقف المرتبط بالناس منذ قاد الثورة ضد الفرنسيين

- ولكن مكرم الذى قاوم الفرنسيين هو احد اسباب تثبيت الطاغية محمد على؟
إن دوره التاريخى فى تولية محمد على
 كاشف عن الانحياز للجمهور فى مواجهة الدولة العثمانية صاحبة السلطة فى هذا الوقت والتى كانت لديها رغبة فى تنصيب خورشيد باشا
 ولكن العلماء بمن فيهم عمر مكرم كانوا يرون أن هناك امكانية فى تحقيق نهضة مصر لو تولى الحكم فيها محمد على ودافعوا عن هذا الاختيار وفرضوه على الدولة.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 6 ينايــــــر 2012
بقلم / محمد حربي 





هناك تعليق واحد:

  1. رحمه الله . كان رائع الطرح. متجدد العطاء لا يقف عند حد الا ويتخطاه حتى لو انه هو من وضع الحد

    ردحذف