الخميس، فبراير 09، 2012

كيف سيعود الإسلام غريبا ؟



تنسب مدونات الحديث للنبي الكريم صلي الله عليه وسلم قوله:
بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريبا‏,‏ فطوبي للغرباء

 وبحسب مفسري الحديث‏.‏ فإن غربة الإسلام الأولي قد ارتبطت بقلة عدد المؤمنين به عند ابتداء ظهوره, وعلي النحو الذي اضطرهم الي إخفاء الرسوم والأشكال الخارجية لإسلامهم, لما يمكن أن يتعرضوا له من المساءلة والإيذاء في حال إظهارهم لها, والملاحظ أن القرآن نفسه قد رخص لهم, ليس مجرد هذا الإخفاء فحسب, بل وأباح لهم أن يعلنوا براءتهم من الدين بالكلية في حال الإكراه والضرورة إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان
ورغم مايبدو من أن الحديث النبوي يعتبر إخفاء أشكال الإسلام ورسومه نوعا من الغربة, فإنه يلزم التأكيد علي أن ترخيص الله بهذا الإخفاء للرسوم ـ وإلي حد قبول إعلان البراءة منها كليا في حال الإضطرار ـ إنما يكشف عن أن حقيقة الإسلام ومعناه تتجاوز تلك الرسوم والأشكال.
 وبالطبع فإنه حين يظل البعض, مع ذلك, يلح علي ربط غربة الإسلام بما يتعلق بالشكل والرسوم فحسب, فإنه لايفعل إلا أن يكشف عن فهم منغلق للإسلام لا يجاوز حدود الرسم والحرف إلي الجوهر والروح.

وإذا كانت غربة الإسلام الأولي تحيل, علي هذا النحو, إلي الإضطرار لإخفاء شكله ورسمه, فإنه لامعني مع استقرار الشكل والرسم القائم علي مدي القرون ـ إلا أن ترتبط عودته غريبا مرة أخري بتغييب جوهره وروحه ومن هنا إمكان المصير إلي أن كل غربة للإسلام لاحقة علي غربته الأولي إنما تتعلق بما يجاوز الشكل الظاهر إلي المعني الكامن الذي هو في حاجة, علي الدوام, إلي الاكتناه والرصد والحق أن غربة المعني هي الأشد وطأة علي الإسلام من غربة الشكل, وذلك من حيث مابدا من أنه في حين يتقبل الله من عباده إخباء رسوم الإسلام الظاهرة, أو حتي البراءة منها كليا في حال الإضطرار, طالما أن معناه العميق حاضر في وعيهم, فإنه لايمكن أبدا تصور أن يقبل الله تغييب المعني العمي للإسلام مع استمرار مجرد رسومه وأشكاله. وإذ يحيل ذلك إلي أن غربة المعني هي الغربة الحقة للإسلام,

ومن جهة أخري, فإنه يمكن القول بأن الغرباء الذين لهم الطوبي حسب بشارة النبي الكريم هم كل أولئك الذين يلحون علي ضرورة استحضار الإسلام بما هو معني وجوهر, علي أن يكون مفهوما أن ذلك لا يعني ماهو أكثر من إمساك العقل بالمعني المتحرك, والجوهر المنفتح للإسلام, ومن حسن الحظ أن ذلك هو مايبدو وكأن الله قد أراده للإسلام فعلا, وأعني من حيث جعل خطاب وحيه وحدة منفتحة تنطوي, في بنائها, علي مايشير إلي تحرك نص التنزيل مع اتجاه حركة الواقع ومساره فإنه ليس من شك أبدا في أنه كان يمكن لله أن يتنزل بوحيه للعباد دفعة واحدة, ولكنه إراد له ـ فيما هو معلوم للكافة ـ أن يتشكل علي مدي يقترب من ربع القرن, في صيرورة راح يتحرك فيها نص التنزيل في تجاوب منقطع النظير مع حركة الواقع الإنساني الحي .

 وغني عن البيان أنه إذا كانت حركية الواقع قد تركت أثرها العميق علي بناء نص التنزيل الأمر الذي راح يستوعبه علماء القرآن من خلال فرضية الناسخ والمنسوخ فإن ذلك يفتح الباب أمام ضرورة تحرك فعل الفهم والتفسير, وعلي النحو الذي يتأكد معه مفهوم المعني المتحرك والروح المنفتحة للإسلام فإنه من المستحيل أن ينفتح فعل التنزيل علي حركة السياق, فيما ينغلق فعل التفسير أمام هذه الحركة ذاتها.

ورغم ما يبدو, هكذا, من أنه لا معني لانفتاح فعل التنزيل وتحركه مع الواقع, إلا ضرورة أن ينفتح فعل الفهم والتفسير ويتحرك مع الواقع أيضا, فإن الكسل العقلي الذي تعيش التيارات الصاخبة علي سطح المشهد المصري الراهن, تحت وطأته, قد جعلهم يستبدلون بفعل الفهم المنفتح مجرد استعارة منظومات تفكير جاهزة من السلف.
 ورغم مايبدو من أن تلك المنظومات هي, في حقيقتها, نتاج فعل فهم منفتح علي سياق الواقع الذي نشأت فيه, فإن مايجري من عزلها عن هذا السياق, ليتسني فرضها علي سياق مغاير, لايؤول إلي تشويهها فحسب, بل ويجعلها عنوانا علي فهم منغلق ولسوء الحظ فإن هذا التفكير بالجاهز ـ عوضا عن الإبداع الفاعل ـ هو آخر ما يحتاجه الظرف الراهن, الذي لا يمكن فهم أزمته بعيدا عن أزمة مشروع في التحديث المشوه الذي قام علي الفرض الإكراهي للحداثة كنموذج معطي جاهز علي مجتمعات كانت تقع خارج سياق تبلورها التاريخي والمعرفي ولسوء الحظ, فإن الطريقة الراهنة في استدعاء الإسلام ـ كبديل لمشروع التحديث المشوه ـ لاتتجاوز حدود السعي إلي فرضه كمنظومة جاهزة علي الواقع وإذ يبدو ـ هكذا ـ أن الآلية التي أنتجت الحداثة المشوهة تكاد أن تكون هي تلك التي يجري بها التعاطي مع الإسلام في التجربة الراهنة, فإنه يمكن القطع بأن هذه التجربة لن تتمخض ـ لسوء الحظ ـ إلا عن أسلمة مشوهة, تماما كالتحديث الذي سبقها.
وبالطبع فإنه لايمكن القول بأن غربة الحداثة عن واقع العرب هو ما أدي إلي ضرورة فرضها علي مجتمعاتهم قسريا, وذلك مالا يمكن أن ينطبق علي الإسلام الذي لا يمكن أن يكون غريبا عن الواقع لأنه دين غالبية الناس,
ولعل ذلك يعني أن الأمر يقتضي استدعاء للإسلام يغاير بالكلية ذلك الذي يمر به الصاخبون علي سطح المشهد المصري, وأعني استدعاء له كجوهر وروح.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 9 / فبراير / 2012


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق