الخميس، فبراير 23، 2012

المصريون بين زخارف الحداثة وبراقع القداسة



رغم ما يبدو للمراقب من الانقسام الراهن للنخبة المصرية بين
شرائح تتبرقع بالقداسة‏,‏ وأخري تتلفح بالحداثة‏,‏
  فإن نظرة أعمق علي ما يرقد تحت السطح تكشف عن أن الكافة‏,‏
من المتبرقعين بالقداسة والمتلفحين بالحداثة, يقفون معاً تحت مظلة ذات الخطاب الذي يتنكر للجمهور ويروم إقصاءه, فإن من راحوا يرفعون- ليلة تنحي مبارك- شعار الله وحده هو الذي أسقط النظام لايختلفون عن أقرانهم الأسبق الذين جعلوا محمد علي( باشا) هو باني مصر الحديثة; وبما يفهم منه أن الجمهور لم يكن حاضرا كفاعل لا في الإسقاط, ولا في البناء.
وبالطبع فإن ذلك لا يعني أن الجمهور كان غائبا بالكلية, وإنما يعني فقط أنه لم يكن حاضرا كفاعل حقيقي أي كذوات تفعل وتقرر لنفسها, بل كفاعل مجازي أي كآدوات يفعل بها غيرها, وهكذا فإنه كان علي المصريين الذين دخلوا القرن التاسع عشر وهم أدوات الباشا التي يبني بها مصر الحديثة, أن يدخلوا القرن الحالي وهم أدوات الله التي أسقط بها نظام مبارك; وبما يعني أن شيئا لم يتغير في وضعهم للآن, وفي المرتين, فإن ذلك كان يحدث, وللمفارقة, عقب ثورة كبري يقومون بها ضد طاغية أرهقهم باستبداده وفساده, ولقد كانوا يثورون من أجل أن يكونوا ذواتهم, ولكن نخبتهم خذلتهم وشاءت لهم أن يكونوا أدوات بأيدي غيرهم.

ورغم أن ذلك يرتبط, علي نحو مباشر, ببلورة النخبة( الحديثة) لخطابها بقصد خدمة المشروع السياسي لدولة محمد علي باشا; الذي لم يكن يريد جموع المصريين إلا كأدوات يبني بها حلمه الطموح, فإنه يبقي أن لهذا الخطاب, فضلا عن ذلك, أصوله المتوارثة المتجذرة في بناء ثقافة أقدم يختلط فيها السياسي بالديني أو حتي يتخفي خلفه.
 ولعل نخبة الباشا لم تكن لتقدر علي جعل المصريين محض أدوات لدولته, لولا أنها اتكأت علي ذلك الأصل المتوارث القديم الذي يتمثل في قاعدة الفاعل الأوحد التي هيمنت- لسوء الحظ - علي بناء الثقافة التي سادت في الإسلام, واستحالت عبرها إلي معتقد ديني, وإذا كان شيئا في وضع المصريين لن يتغير ما لم يتحولوا من أدوات إلي ذوات, فإن ذلك لن يحدث إلا عبر زحزحة الحضور المهيمن لقاعدة الفاعل الأوحد التي لا يؤثر اختلاف الفاعل فيها- الذي هو الله عند فريق, والباشا أو حتي الجنرال عند آخرين- علي سطوة تحديدها لبناء الخطاب القائم للآن; والذي هو خطاب البرقعة بالقداسة أو الزخرفة بالحداثة, وهكذا فإن ثمة خطابا واحدا ينتظم الممارسة الواقعية لكل شرائح النخبة المصرية, علي الرغم مما يقوم بينها من اختلاف المنطلقات والتوجهات الإيديولوجية;
وهو خطاب ينبني علي الإقصاء الكامل للناس الذين لا يسمح لهم بالحضور إلا كمحض أدوات يفعل بها الواحد, وبالطبع فإن شيئا لن يتغير في مصر حقا, من دون زحزحة هذا الخطاب; وبما تعنيه تلك الزحزحة من إدخال الناس إلي الفضاء العام كفاعلين حقيقيين.

ولعل مرويات التاريخ لم تقصد بما حفظته من توجه أحدهم بخطابه للحسن البصري قائلا:
 يا أبا سعيد...هؤلاء الملوك( الأمويون) يسفكون دماء المسلمين ويأكلون أموالهم
ويقولون:
 إنما أعمالنا تجري علي قدر الله, إلا الكشف عن الدور السياسي الفظ لقاعدة الفاعل الأوحد.
فلقد بدا لملوك بني أمية أنه ليس من سبيل لإطلاق أيديهم في دماء الناس وأموالهم إلا عبر التخفي وراء ما قالوا أنه قدر الله الذي جعلوا أنفسهم أدوات لتفعيله, وإذ أدرك الشيخ البصري النابه ما ينطوي عليه ذلك من سعي هؤلاء الملوك إلي التحلل بذلك من مسئوليتهم عن أفعالهم الباطشة, فإنه راح يواجههم بردها إليهم كفاعلين حقيقيين لها, ونافيا عنها أن تكون قدر الله;
 الأمر الذي أزعج عبدالملك بن مروان فراح يحشد فقهاءه للرد عليه, ولقد بدا أن هؤلاء لم يجدوا ما يردون به علي الرجل إلا بالمزايدة علي إيمانه بدعوي أنه لا فاعل إلا الله, لكن الرجل لم ينخدع بما يطفو علي سطح تلك الدعوي من تزيد إيماني وراح يقرأ ما يرقد تحت سطحها من السعي إلي تبرئة الملوك من أفعال البطش بردها إلي الله كفاعل لها; وذلك بما هو الفاعل الأوحد, ولعله أدرك أن قاعدة الفاعل الأوحد لا تؤدي فحسب إلي كسر قانون العدل علي الأرض( حيث لا حساب علي بطش أو ظلم), بل تؤدي إلي تشويه بهاء الله وجلاله.

وإذ لا يقف المضمون السياسي لقاعدة الفاعل الأوحد عند مجرد تحصين الطغاة, بل يتجاوز إلي طرد الناس من ساحة الفاعلية علي العموم; وعلي النحو الذي يترسخ معه حضورهم كمحض أدوات للفاعل الأوحد; الذي هو المتسلط( ولو كان متخفيا وراء الله), فإن الصعود السياسي الراهن للإسلاميين في العالم العربي يفرض ضرورة فضح هذا المضمون المتخفي لتلك القاعدة; وذلك ابتداء من أنهم الأكثر إستحضارا لمجرد الوجه الديني لها, وساكتين- عن وعي أو لا وعي - عن هذا المضمون التسلطي لها, ويرتبط ذلك بحقيقة أنه من دون الوعي بهذا المضمون المتخفي, فإن   تحصين الطغاة وطرد الناس من ساحة التأثير والفعل سيصبح دينا يتعبد الناس به الله, وهنا يقوم المأزق الذي يجابه صعود الإسلاميين الراهن; وأعني من حيث أنه لن يكون بمقدورهم- مع غياب هذا الوعي- إلا إعادة إنتاج الاستبداد مرة أخري, ومن دون أن يؤثر في ذلك أنه سيكون معهم متبرقعا بأستار القداسة, بعد أن كان مزركشا- مع سابقيهم- بإكسسوارات الحداثة.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 23 / فبراير / 2012


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق