الخميس، أبريل 05، 2012

عن الشريعة وما هو قطعي الدلالة‏..‏ قراءة في مراوغة مفهوم‏!‏



لا يشتغل المفهوم‏(‏ أي مفهوم‏)‏ منفردا‏,‏
 بل يشتبك مع غيره‏ من مفاهيم أخري‏,‏
 تتضافر معه في انتاج ـ وتثبيت ـ الدلالة التي يريدها لها مستخدموه‏.‏
وإذا كان قد بدا أن دلالة مفهوم الشريعة في الاستخدام الجاري له ـ في الوقت الحاضر ـ يرتبط بتاريخ طويل من الفهم المنغلق الضيق, بقدر ما يفارق رحابة وانفتاح التداول القرآني له, فإن ثمة مفاهيم تتضافر معا في انتاج تلك الدلالة المتزمتة لهذا المفهوم. 

فإن روح القطع والجزم وتعطيل التفكير التي تفيض بها مفاهيم مثل:
النص القطعي الثبوت والدلالة و لا اجتهاد مع نص هي الروح التي يتغذي عليها البناء المنغلق الضيق الذي استقر لمفهوم الشريعة.
وغني عن البيان أن سعيا الي استعادة ما أراده القرآن للمفهوم من رحابة وانفتاح, لن يكون ممكنا إلا عبر الحوار مع تلك المفاهيم الداعمة التي تآدت الي تثبيت المفهوم الضيق للشريعة( كمحض أحكام وحدود), وهي المفاهيم التي ترسخت كمصادرات تتعدي منطق التفكير والمناقشة.
 ولعل القيمة القصوي للحوار مع تلك المفاهيم يتأتي من أنها تمثل الأسس التي يعتمد عليها الساعون إلي احتلال المجال العام في مصر( من مؤدلجي الاسلام) في التأثير علي وعي الجمهور, بعد أن أفلحوا في التلاعب بعواطفه.

ومن حسن الحظ أن تحليلاً لتلك المفاهيم يكاد يكشف عن أنها لا تقدم معرفة حقة, بقدر ماتعمل كأقنعة تتخفي وراءها رؤي وتصورات يراد تحصينها خلف القداسة المفترضة لما يخايل به السطح الظاهر لتلك المفاهيم غير المنضبطة.
 وإذن فإنها من قبيل المفاهيم التي تكون مرادة, لا لما تجليه وتكشف عنه, بل لما تخفيه وتغطي عليه.
ولكي تكون مثل تلك المفاهيم قادرة علي أداء وظيفتها في التمويه والإخفاء, فإنه يغلب عليها بساطة الصياغة اللغوية علي نحو يسهل معه ترديدها, بما يؤول الي ترسيخها وتثبيتها.
 وهكذا فإن البساطة اللغوية لمفهوم قطعي الثبوت قطعي الدلالة لا تعكس الإحكام والدقة, بقدر ماتعكس مراوغة تيسير الترديد الذي يقصد الي تثبيت حكم المقدم( قطعي الثبوت) للتالي( قطعي الدلالة) علي رغم انتماء الواحد منهما الي مجال مغاير لذلك الذي ينتمي إليه الآخر.
 إذ فيما ينتمي الثبوت الي مجال التاريخ الذي يقبل كل ما يحدث فيه أن يكون موضوعا للقطع والتثبت, فإن الدلالة تنتمي الي مجال المعني الذي لا يقبل ـ بطبيعته ـ أن يكون موضوعا للقطع والتثبيت أبدا.

وهكذا فإن ماينسحب علي الثبوت لا يمكن أن ينسحب,آليا, علي الدلالة بحسب ما يقصد إليه المفهوم, وما يعنيه ذلك مباشرة من أن الثبوت القطعي لأصول الاسلام        (قرآنا وسنة) لا يعني أبدا إمكان القول بقطعية الدلالة التي يربطها البعض بهما.

وإذا كان ثمة من يسعي الي تثبيت القطعية فيما يخص دلالة القرآن, عبر القول بأن عدم القول بقطعية دلالته لا يعني ما هو أكثر من القول بظنية تلك الدلالة, و أن وصف دلالة الآيات بالظنية يوجب ـ علي قول أحدهم ـ كون القرآن حجة ظنية ومعجزة غير قطعية, مع أن الاعجاز يقوم علي القطع واليقين, فإنه يلزم كشف ما ينطوي عليه هذا القول من مراوغة التسوية بين القطعي وبين اليقيني, في حين أن القطعي إنما يرادف, في الحقيقة, المنغلق والجامد,
 وذلك فضلا عن التسوية ـ من جهة أخري ـ بين عدم القطع وبين الظن( بما هو نقيض الحق), في حين أن المعني غير القطعي لا يعني أكثر من المعني المنفتح المتحرك. 

وهكذا فإن الأمر يتعلق بالدفاع عن الدلالة المفتوحة في مقابل الدلالة المغلقة, وليس أبدا بتكريس الدلالة الظنية في مقابل الدلالة اليقينية. وليس من شك في أن إعجاز القرآن يكون أكثر رسوخا في حال الدلالة المفتوحة منه في حال الدلالة المغلقة الجامدة, وأعني من حيث لا ينكشف إعجازه إلا مع انفتاح دلالته وإتساعها, وليس العكس.

وإذا كانت سهولة ترديد مفهوم قطعي الثبوت قطعي الدلالة قد أتاحت له تداولا واسعا نسبيا بين الجمهور, فإن الغريب حقا أن هذا القطعي الدلالة هو ـ بحسب تعريف الأصوليين له ـ مما يعز حصوله في القرآن.
 فإذا كان القطعي الدلالة هو ما دل علي معني متعين فهمه منه, ولا يحتمل تأويلا, ولا مجال لفهم معني غيره منه, أو أنه علي قول آخر ماينتقل بإفادة المعني علي قطع مع انحسام جهات التأويل والاحتمال فإن ذلك مما يندر وجوده في القرآن, وإلي حد أن السيوطي لم يجد إلا مثالا واحدا له, في قوله تعالي:
فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم, تلك عشرة كاملة,
وبما يعنيه ذلك من أنه لم يجد في القرآن ماينطبق عليه معني القطع إلا في شطر آية هو عبارة عن مسألة حسابية.
 وأما إذا جري تعريف القطعي الدلالة بأنه كل نص دل علي فرض في الإرث مقدر أو حد في العقوبة مقرر أو نصاب محدد, فإن ثمة من فروض الإرث المقدرة تصريحا في القرآن, ماكان موضوعا لاختلاف الصحابة أنفسهم, وبما يعنيه ذلك من إستحالة أن تكون محلا لدلالة قاطعة.

وكمثال فإنه يمكن الإشارة الي ماأورده ابن العربي ـ في كتابه أحكام القرآن بخصوص قوله تعالي:
 فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك.
 فعلي رغم أنه فرض في الإرث مقدر ـ وبما يعنيه ذلك من وجود أن يكون من قبيل القطعي الدلالة بحسب التعريف الآنف, فإن ابن العربي قد اعتبره معضلة عظيمة, فإنه تعالي لو قال:
(فإن كن إثنتين فما فوقهما فلهن ثلثا ماترك), لانقطع النزاع.
 فلما جاء القول هكذا مشكلا وبين( القرآن) حكم( البنت) الواحدة بالنصف, وحكم مازاد علي الاثنتين بالثلثين, وسكت عن حكم البنتين أشكل الحال, بما يعنيه ذلك من أنه من قبيل المشكل الذي يستحيل معه الجزم والقطع.
 وحين يضاف الي ذلك الاختلاف الحاصل في نفس الآية بخصوص قوله تعالي:
 فإن لم يكن له ولد وورثة أبواه فلأمه الثلث,
والذي لم يكن قاطعا رغم أنه فرض مقدر, حيث أورد القرطبي أن( ابن عباس) قال في إمرأة تركت زوجها وأبويها:
للزوج النصف, وللأم ثلث جميع المال, وللأب مابقي,
 وذلك في حين أورد عن( زيد بن ثابت) قوله:
 للزوج النصف, وللأم ثلث مابقي( وليس ثلث جميع المال).
 والمهم أنه حين سأل ابن عباس زيدا:
 أتجد ماتقوله في كتاب الله, أم تقوله برأي ؟
فإن مارد به زيد من أنه يقوله برأيه, لا يعني إلا دلالة القول ليست قطعية أبداً, علي رغم أنه فرض مقدر.

والحق أنه, وعلي فرض بيان القول ووضوحه, فإنه لا يجوز القول بقطعية الدلالة مطلقا, فإنه لو صح ذلك لما كان لعمر بن الخطاب أن يوقف دفع سهم المؤلفة قلوبهم مع بيان القرآن له صراحة, وهو ما يعني أن أمر الدلالة لا يتوقف فقط علي بيان المقال, بل وكذا علي سياق الحال.
 فهل يستوعب مؤدلجو لاسلام سياق الحال ؟

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 5 / ابريل /2012



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق