الخميس، أبريل 19، 2012

انتخـــاب رئيــس أم صناعــة قيصــــــر؟



علي الرغم من أن مصر لم تدفن بعد قيصرها السابق
الذي لا يزال يتمدد علي محفته ينتظر موتا يأبي إلا أن يعانده‏,‏ فلا يأتيه ليريحه‏,‏ ويريح غيره‏,‏
 فإن الشرائح الغالبة من نخبتها‏(‏ التي هي‏-‏ ولسوء الحظ‏-‏ أصل نكبتها‏)‏ قد انخرطت في عملية إنتاج قيصرها البديل‏;‏
 وعلي النحو الذي لابد أن يستعيد معه المرء ما قاله الشاعر المصري الكبير
أمل دنقل:
'' لا تحلموا بعالم سعيد, فخلف كل قيصر يموت....قيصر جديد''.
ولأن'' القيصرية'' لم تكن تعني, منذ ابتداء تبلورها مع الرومان, إلا إطلاق السلطة للحاكم, وإلي الحد الذي يدنيه من مقام'' الإله'', فإن الرومان كانوا يضعون في عربة القيصر من يذكره أنه ليس إلها.
 وإذا كان أحد لا يجادل في أن'' مبارك'' قد جعل نفسه- أو جعله غيره - قيصراً يقف خارج حدود السؤال والمحاسبة, وإلي حد إمكان القول بأن الثورة عليه, تنطوي- في حقيقتها- علي السعي إلي إسقاط تلك'' القيصرية'',
 فإن الأمر الغريب حقا هو ما يجري, الآن, من الانخراط الدؤوب في إعادة إنتاجها, وليس تفكيكها.
 ولعل الغرابة تبلغ مداها, حين يدرك المرء أن هؤلاء المنخرطين في السعي الدؤوب لإعادة إنتاج تلك'' القيصرية'' التي تدني الحكام من مقام الرب/ الإله, هم من يقولون عن أنفسهم أنهم أهل التوحيد الخالص لله.

فإن نظرة علي الممارسة الراهنة للقطاع الغالب من الطبقة السياسية المصرية لا تكشف عن غير السعي إلي إعادة إنتاج'' الرئيس/ القيصر''. وتبعا لذلك, فإنه يبدو وكأن الأمر لم يتجاوز حدود الثورة علي'' قيصر'' بعينه( هو مبارك), إلي الثورة علي ثقافة إنتاج القياصرة التي لا يمكن مع تجذرها في الوعي- وحتي اللاوعي- الجمعي(بمضامينه النفسية والمعرفية والاجتماعية),
 إلا أن يظل القياصرة يتناسلون أبدا. وللمفارقة, فإنه إذا كان الارتقاء بمبارك إلي مقام'' القيصر'' قد تحقق بعد سنوات من اعتلائه السلطة, فإن ما يلحظه الكافة من ابتداء جماعات الإسلام السياسي- من الإخوان والسلفيين- مسار السعي إلي السلطة بالتسامي بمن يريدون له وراثة مبارك إلي مقام القيصر, قبل أن يتم تنصيبه رئيساً, إنما يكشف عن سهولة إنتاج'' القيصرية'' عبر التلاعب بالرأسمال الرمزي
(الديني بالأساس) للجمهور.

 ولكن ذلك لا يعني أن'' الدين'' هو الأصل المنتج لتلك'' القيصرية'', بل إنها تجد ما يؤسس لها- بالكلية- في القلب الصلب للثقافة التي تحققت لها السيادة في عالم العرب, والتي راحت تمارس توجيها علي الدين نفسه.
 ليس الدين, إذن, هو ما يؤسس للتعالي بالحكام إلي مقام القياصرة, بل هي الثقافة التي جعلت من مبارك قيصرا, رغم أنه لم يعتمد علي الرأسمال الديني في بناء سلطته كقيصر; بمثل ما إنها هي التي يقف كل من الإخوان والسلفيين تحت مظلتها في بناء السلطة الرمزية لقادتهم, وإن كانوا يتميزون فقط بتحفيز الفاعلية الكامنة لتلك الثقافة عبر استدعاء الرأسمال الديني الطافي علي سطح الوعي الآن.

فقد اعتمد الإخوان المسلمون والسلفيون في بناء السلطة القيصرية, لمن تقدموا بهم لوراثة مبارك, علي التعالي بهم إلي مقامات مخصوصة يجاوزون فيها حدود البشر العاديين.
 فحين لا يجد المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين ما يزكي به مرشح جماعته, إلا أنه رجل خصه الله بمكرمة قبول الدعاء التي لا يخص بها إلا المصطفين من عباده, فإنه كان يخايل بأن الرجل هو أحد أصفياء الله; وبما يعنيه ذلك من امتياز بمقام مخصوص لا يدانيه فيه غيره.
 وغني عن البيان أن هذا المقام المخصوص هو ما سوف يجعل من الميسور علي أنصار الرجل مماثلته مع أحد'' رجال الله'' الذين يتمتعون بثقل هائل في الرأسمال الديني للجمهور; وأعني به النبي الكريم'' يوسف'' الذي قيل أن مرشح الجماعة نسخته العصرية.

ورغم أن أنصار المرشح السلفي لم يكونوا أقل من الإخوان في التعويل علي الرأسمال الديني في بناء السلطة القيصرية لمرشحهم, فإنهم حين أصروا علي اعتبار الرجل بمثابة'' الأب'', كانوا يمتدون بما يؤسس لسلطة قياصرة العرب إلي عالم الثقافة الأقدم; وأعني بها ثقافة'' الأبوية''.
ولعل ما راح يهتف به هؤلاء الأنصار من مفردات'' البيعة'' و'' الدم'' و'' التعبئة والحشد'' ليعد بعضاً مما يحتشد به قاموس تلك الثقافة الراسخة العتيقة... واتساقاً مع تقاليد دعاة السلفية في التعالي بنماذجهم إلي مقامات مخصوصة يكتسبون فيها سمات فوق البشرية, فإنهم قد ارتفعوا بمرشحهم لوراثة مبارك إلي مقام يدينه من الله نفسه.

ولعل ذلك ما يمكن فهمه مما ذهب إليه أحد أنصار الرجل الذي كان كل مايدهشه أن يستنتج البعض من الأخبار التي تواترت عن حمل السيدة والدة مرشحه الرئاسي للجنسية الأمريكية, أن يكون الرجل قد مارس الكذب حين تقدم للترشح للمنصب الرفيع, وبما يعنيه ذلك من وجوب توقيعه علي أوراق تفيد بعدم حمل أي من والديه لجنسية أخري غير المصرية. وهكذا فإن المشكلة بالنسبة للرجل لم تكن في أن نموذجه الأعلي قد مارس الكذب, بل هي- بالأحري- في مجرد تفكير البعض في إمكانية أن يقع الكذب منه أصلا.
فالكذب, وغيره من الدنايا, هو مما يستحيل أن يقع, أبدا, من نموذجه الأعلي الذي هو ليس كغيره من البشر الذين يكذبون. ولسوء الحظ, فإن وضع الرجل لنموذجه الأعلي, هكذا, تحت فئة من المستحيل أن يقع منه شيئ من الدنايا التي تقع من سائر الخلق, إنما يدنيه من الله الذي يبقي هو الموجود الحق الذي يقف بتفرد ذاته تحت فئة من يستحيل أن يقع منه ما يقع من الخلق.

وهكذا يتجاوز دعاة السلفية وصل مرشحهم, ونموذجهم الأعلي, بمجرد واحد من رجال الله وأصفيائه الذين يسكنون الذاكرة الدينية للجمهور, إلي وصله بالله نفسه; وأعني من حيث يجعلونه شريكا له في القيام تحت فئة من يستحيل أن يضاف إليهما ما يقع من سائر المخلوقين. وإذ يفعل دعاة السلفية ذلك, فإنهم- وللمفارقة- يجعلون من نموذجهم الأعلي نسخة من إمام الشيعة المعصوم, الذين لا يكف دعاة السلفية عن تأكيد خروجهم عن الإسلام. ولعل ذلك يؤكد أن التعالي بالحكام إلي مقامات مخصوصة فوق بشرية لا يختلف الفرقاء في الإسلام بخصوصها; وبما يعنيه ذلك من التأكيد علي حضورها المتجذر في الثقافة.

حين يدرك المرء أن هذا التعالي بالحكام إلي مقامات مخصوصة يتفردون فيها, ويتميزون عن غيرهم, وأن ما يترتب علي ذلك من وصلهم بالله باعتبارهم من رجاله المصطفين, هو جزء من تقاليد'' الآداب السلطانية'' التي تسربت إلي الإسلام من المواريث العتيقة للشرق القديم; فإن له أن يتساءل عما إذا كان الفاعلون الذين تحققت لهم الغلبة السياسية يدركون حقا معني ما شهدته مصر من ثورة تبغي الدخول بها إلي عصر الحداثة السياسية أم أن الأمر لا يتجاوز معهم مجرد السعي إلي إثارة الرأسمال الديني لتحصين تراث'' الآداب السلطانية'' المنسرب من عالم الشرق القديم بتقاليده الراسخة في الاستعباد والطغيان؟ وبالطبع فإن ذلك يحيل إلي وجوب تفكيك ذلك الموروث المنتج للقيصرية, وعدم الاكتفاء بمجرد التخلص من قيصر بعينه.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 19 /أبريل/ 2012


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق