الخميس، يوليو 12، 2012

نصـر أبوزيـد وسـؤال القـــرآن


سوف يكتشف الكافة‏,‏ ولو بعد مرور بعض الوقت‏,‏ أن قدرة الإسلام علي التفاعل المنتج والخلاق مع العصر‏,‏ وعلي النحو الذي يتحول معه من عنوان علي أزمة يعاني المسلمون وغيرهم من تداعياتها السلبية‏,‏
 إلي مشروع خلاص للبشر علي العموم.
 إنما يرتبط بالقدرة علي إثارة سؤال القرآن وإعادة التفكير فيه علي نحو يتسم بالجرأة والمسئولية.

ولقد كان ذلك تحديدا هو ما انشغل به الراحل الكبير نصر حامد أبوزيد الذي أدار الشطر الأعظم من حياته
(التي أنهاها موته الإسيان قبل عامين بالضبط من الآن) حول هذا السؤال المركزي والتأسيسي.
ورغم ما جره هذا الانشغال علي الرجل من مطاعن في دينه وعقيدته
(وبما ترتب علي ذلك من التشويش علي جدية ورصانة إنجازه, و حال دون التفاعل النقدي المثمر معه),
 فإن للمرء أن يقطع بأن وقتا طويلا لن يمر قبل أن يكتشف الفاعلون في مجال الدرس الإسلامي القيمة الكبري لهذا الإنجاز الرصين, ويدركوا ضرورة إعادة اكتشافه, والبناء فوقه.



فقد أدرك الرجل أن القرآن قد حوصر بشبكة من المفاهيم والتصورات التي وجهت عمليات فهمه وقولبتها, ووضعت لها حدودا وآفاقا لا تخرج عنها, واكتسبت علي مدي القرون- ورغم مصدرها البشري- قداسة توازي تلك التي للقرآن ذي المصدر الإلهي.

 ولسوء الحظ, فإن هذا الحصار قد أضر بالقرآن وبالمسلمين في آن معا.
 فقد أعجز القرآن عن أن يكون مصدرا للإلهام في عالم متغير, وأجبر المسلمين, إبتداء من اضطرارهم للانحباس ضمن تحديدات هذه المفاهيم الراسخة, علي التعيش عالة علي غيرهم من صناع العصر والفاعلين فيه.
ومن هنا ما بدا من ضرورة الإنعتاق من أسر تلك التحديدات, واستعادة القرآن الحي السابق عليها; والذي كان- وللمفارقة - قرآن النبي وصحابته الأكرمين.
 وبالطبع فإنه يبقي وجوب الانتباه إلي ما يؤشر عليه هذا المسعي الانعتاقي من التمييز بين القرآن الذي صار موضوعا لتقليد جامد تقوم عليه مؤسسة حارسة ترعاه وتحفظه, وبين القرآن المنفتح الحي السابق علي رسوخ هذا التقليد; والذي تزخر المصادر القديمة بما يرسم صورة متكاملة له مما يتواتر منسوبا إلي النبي الكريم والجيل الأول من الذين تلقوا وحيه الخاتم.

وهنا يلزم التأكيد علي أن الأمر لايتعلق بأي تحول في طبيعة القرآن ذاته, بقدر ما يتعلق بتحول في نوع العلاقة معه; وأعني من علاقة مع القرآن كان فيها ساحة يتواصل فوقها الناس بما تسمح به مقتضيات الواقع والأفهام, إلي علاقة بات يجري معها فرضه كسلطة إخضاع بالأساس.
 وللغرابة, فإن هذا التحول قد كان من الإنجازات الكبري لبني أمية بالذات. فرغم الوعي, من جهة,بضرورة وجدوي ما قام به الخليفة الثالث عثمان بن عفان من تقنين المصحف, فإنه يبقي لزوم الإشارة إلي ما صاحب هذا العمل مما يقال أنه الإنتقال من القرآن الناطق إلي القرآن الصامت; وبما ينطوي عليه هذا الإنتقال من إهدار ثرائه وحيويته. ومن جهة أخري, فإن ما قام به الأمويون, إبان صراعهم السياسي مع الإمام علي بن أبي طالب, من رفع المصاحف علي أسنه الرماح والسيوف كان الواقعة الكاشفة عن إرادتهم في تثبيت القرآن كسلطة حارسة لسلطانهم, وذلك بعد أن تبدي لهم جليا أن فاعليته في إنقاذ هذا السلطان تفوق فاعلية السيف بكثير.

 وغني عن البيان أن هذا التمييز بين قرآن النبي الحي وبين القرآن المنحبس وراء التقييدات التي تفرضها السلطة, إنما يعكس ما يكاد يكون تقابلا يعرفه دارسو الأديان علي العموم بين دين التقليد الذي تحرسه مؤسسات السلطة لتسوس به الناس, وبين الدين الحي الذي يقصد إلي إذكاء الوعي وتحرير الإرادة.
 وإذ تحرس المؤسسة دين التقليد, لأنه يكون حارساً لها بدوره, فإن سعياً إلي تحرير الدين من سطوة التقليد, واستعادته في انفتاحه وحيويته الأولي, سوف يعري تلك المؤسسة مما تستر به عورتها.
 ومن هنا أن انتقام المؤسسة من هؤلاء الساعين إلي استعادة الدين الحي يكون قاسيا حقا, لأن ذلك يكون بمثابة تعرية لها من غطائها الإيديولوجي. وللغرابة فإن الجمهور الذي يكون القصد إلي تحريره من القبضة المهيمنة للمؤسسة هو ما يقف وراء السعي إلي استعادة الدين في حيويته وإنفتاحه, يكون هو الآداة التي تنتقم بها المؤسسة من هؤلاء الساعين إلي تعريتها; وذلك بمثل ما جري لأبي زيد الذي لم يستهدف إلا إستعادة قرآن النبي المنفتح الحي, فجعلت منه مؤسسة التقليد منكرا للوحي, وأطلقت الجمهور ضده.

وإذ يكشف ما سبق عن أن ما جري لأبي زيد هو من فعل سلطة تسعي إلي حفظ وجودها, وإطاله أمد بقائها, فإنه يلزم فضح ما يقف وراء هذا المسعي الأناني من تثبيت القرآن المنحبس وراء القواعد, أو بالأحري التقييدات, التي ترسخت عبر القرون, ولو كان ذلك علي حساب قرآن النبي المنفتح الحي. وهنا يلزم التنويه بأن أحدا لو توفر علي جمع الروايات الكثيرة المتواترة عن النبي وصحبه الكرام, بخصوص القرآن( تنزيلا وتدوينا ولغة وتداولاً وجمعاً وتأليفاً ), لأمكنه رسم صورة له تغاير- أو حتي تناقض- الصورة التي استقرت له عبر القرون اللاحقة بفعل السلطة, والتي يكاد يغيب منها الإنسان علي نحو كامل.
وعلي العكس تماما من تلك الصورة السلطوية, فإن السمة الرئيسة للقرآن, بحسب المتواتر عن النبي وصحبه, هي في انفتاحه علي الإنسان, واتساعه له علي نحو يثير الاندهاش; وإلي الحد الذي يكاد معه الإنسان يكون هو مركز دائرته وقطب رحاه.

والحق أن أبا زيد لم يفعل شيئاً إلا السعي إلي استعادة هذا القرآن المنفتح الحي
(والذي هو- وللمفارقة - قرآن النبي), وأمسك في سنواته الأخيرة بالمفهوم الذي يقدر به, أكثر من غيره, علي تحقيق مسعاه;
 وأعني به مفهوم الخطاب.
 وإذ يؤشر ذلك علي تحوله عن المفهوم المركزي الذي تمحورت حوله مقارباته الأولي للقرآن; وأعني به مفهوم النص بعد أن تبدي له عجز المفهوم وقصوره عن الإحاطة بعالم القرآن المنفتح الحي, فإن ذلك يكشف عن روح منفتحة تخاصم التحجر والانكفاء, وعن عقل لم يكف عن التساؤل, وهو ما تبدو مصر ف مسيس الاحتياج إليه الآن.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 12/ يوليو/2012


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق