السبت، يوليو 21، 2012

حوار الدكتور علي مبروك مع جريدة البديل ج1





كتب الحوار : مدحت صفوت
الإسلاميون الآن قدم في الماضي والأخرى في الحاضر.. ويتمترسون وراء بعض الشعارات التي تمنعهم من الدخول في أي حوارات
اقتراح "السيادة لله" إعادة لفكر الحاكمية بكل ما ينطوي عليه من مخاطر مُحدقة
المفكر الدكتور علي مبروك، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، له العديد من الكتابات حول التراث، والشبكة المفاهيمية التي تنتظم بناء تراثنا العربي والإسلامي. ويحتل مفهوم "الشريعة" موقعًا مهمًا في قلب هذه الشبكة؛ ومن هنا ما يبدو من إنشغال "مبروك" الواضح به، في كتابيه "ما وراء تأسيس الأصول"، و"لعبة الحداثة بين الجنرال والباشا".
وخلال الأيام القليلة الماضية انتهت لجنة المقومات الأساسية للمجتمع بالجمعية التأسيسية لوضع الدستور، من وضع المادة الثالثة من الدستور، حول مرجعية الأزهر الشريف لشئون المسلمين. ونصت المادة المستحدثة في مسودة الدستور على أن "الأزهر الشريف هيئة إسلامية مستقلة مقرها مصر ومجالها العالم الإسلامي والعالم كله، تختص بالقيام على كافة شئونها وتكفل الدولة الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضها ويكون رأى هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف المرجعية النهائية للدولة في كافة الشئون المتعلقة بالشريعة الإسلامية".
كما شهدت الساحة السياسية والثقافية لغطًا حول مفهوم الشريعة ومبادئها وأحكامها، ولمن تكون السيادة: لله؟ أم للشعب؟ وحول الشريعة كمفهوم ومقاصدها وغاياتها، و"عمل اللجنة التأسيسية"- المثير للجدل- كان لنا مع المفكر الإسلامي هذا الحوار..

- المفاهيم بوابة كل علم ومستهل كل تخصص.. كيف تقرأ مفهوم الشريعة الآن؟

للأسف، في مصر، أدت حالة عدم الانضباط المعرفي للمفاهيم إلى إلتباسها وتشوشها‏,‏ على النحو الذي جعل منها موضوعًا للتلاعب‏,‏ وليس الفهم‏.‏ وباتت أدوات يتحارب بها الناس ويتناحرون, بدل أن تكون ساحات يتواصلون عبرها ويتحاورون. ومن بين هذه المفاهيم مفهوم الشريعة, الذي تشهد اللحظة الراهنة استخدامًا متزايدًا له من جانب جماعات الإسلام السياسي التي تستثمره في صعودها المتسارع نحو السلطة في العالم العربي على العموم, وذلك فضلا عن شحذها الجاري له لتحسم به الجدل المرتقب حول الدستور في مصر.
ولسوء الحظ، فإننا لا ندري أية وجهة من وجهات الشريعة، ودلالاتها، يقصد من يستخدم هذا المصطلح؟ فمفهوم الشريعة أحد المفاهيم المحملة بدلالات تاريخية نشأت عن الاشتغال عليه ضمن تحديدات مكانية وزمانية لعبت دورًا في حاسمًا في تركيبه، وهذه الدلالات لا تتطابق تماماً- وعلى نحو آلي- مع دلالة المفهوم بحسب التداول القرآني له. والواقع يثبت أن من يستخدمون مفهوم "الشريعة" هذه الأيام يستدعونه بمحمولاته التاريخية فقط، ويسكتون تمامًا عن الفضاء الرحب للتداول القرآني له.

- ما الفرق بين المفهومين؛ التاريخي والقرآني؟

المفهوم القرآني للشريعة يضعك أمام نوعٍ من التداول بالغ الرحابة والانفتاح، فيما ذهبت الاشتغالات التاريخية على المفهوم إلى التضييق من تلك الرحابة، بعد أن صار المفهوم موضوعًا للانحيازات، ومقتضيات الظروف والأحوال والرؤى، والأوضاع السسيوثقافية، مما جعلنا أمام نوع من الفهم المنغلق الضيق الذي تتحكم فيه تصوراتٍ صنعتها عصور الجمود والركود الطويل التي عاشتها المجتمعات الإسلامية. ولسوء الحظ, فإن الأمر لايقف عند مجرد ركود المفاهيم وجمودها, بل يتجاوز إلى الإنحراف بها عن المجال التداولي لها في القرآن. وبالرغم من ذلك, فإن منتجي هذا الفهم وحراسه لايكفون عن الإدعاء بأن القرآن هو مصدر تلك المفاهيم, لكي يهبوها حصانته وقداسته.

عمليًا كيف تم ذلك؟

الشريعة في القرآن، ومن خلال البحث عن الجذر اللغوي شرع ومشتقاته نجد أنه قد ورد أربع مرات; كان في ثلاث منها منسوبًا إلى الله وحده, وفي المرة الوحيدة التي نسب فيها القرآن الفعل شرعوا إلى البشر, فإن ذلك كان على سبيل الاستنكار والتعريض؛ وبما يعنيه ذلك من إصرار القرآن على نسبة "الشريعة" إلى الله وحده. وهنا يلزم السؤال (أولاً) عن مجال تلك "الشريعة" التي ينسبها القرآن إلى الله وحده، ثم السؤال "ثانياً" عن مدى جواز استخدام لفظ "الشريعة" للإشارة إلى البناءات التي تدخل الفاعلية الإنسانية في إنجازها "كالفقه مثلاً". وبخصوص السؤال الأول، فإن كل موسوعات التفسير الكبرى "للطبري والرازي والقرطبي وابن كثير وغيرهم" تتفق في تفسيرها لآية "شرع لكم من الدين" على أن المقصود من الآية أنه يُقال: شرع لكم دينًا تطابقت الأنبياء على صحته، وأن المراد من هذا الدين شيئًا مغايرًا للتكاليف والأحكام، وذلك لأنها مختلفة متفاوتة. وبحسب تلك القراءة، التي يتفق عليها مفسرو أهل السنة الكبار، فإن مجال "الشريعة" التي ينسبها القرآن إلى الله هو ما تطابقت عليه الأنبياء من الكليات والمقاصد التي يتوافق عليها الجميع من بني البشر. وأما ما دونها مما يختلفون فيه بحسب الأحوال المتفاوتة للبشر، من الأحكام والتكاليف، فإن القرآن قد جعله موضوعًا "للفقه" الذي لابد من ملاحظة إلحاح القرآن على نسبته إلى الإنسان في المقابل.
فقد ورد الجذر "فقه" بمشتقاته، عشرين مرة في القرآن، كان فيها جميعًا في صيغة الفعل المنسوب إلى البشر فقط. وإذ الفقه، هكذا، هو تركيبٌ تدخل في بنائه الفاعلية الإنسانية، فإن ذلك يعني عدم جواز استخدام لفظ "الشريعة"- المخصوص بالله وحده بحسب القرآن- في الإشارة إليه، وذلك على العكس تمامًا مما يفعل دعاة الإسلام السياسي الآن؛ الذين يؤسسون إستراتيجيتهم على مراوغة إخفاء "الفقه" بما هو تركيبٌ إنساني وراء "الشريعة" بما هي مشروعٌ إلهي.

طرح الإسلاميين للشريعة إلى أي المفهومين أقرب، القرآني أم التاريخي؟

في جميع الاستخدامات الراهنة للمفهوم يبدو أن استدعاء المفهوم بحمولته التاريخية، وليس القرآنية، هو المهيمن بقوة. وابتداءًا من أن الحمولة التاريخية تمثل تضييقًا للمفهوم، في مقابل الرحابة التي تؤكدها حمولته القرآنية (وهو التقابل الذي ينتج عن التباين بين القرآن كفضاء "للكلي"، وبين التاريخ كساحة "للجزئي")، فإن الانحياز للمفهوم بحمولته التاريخية، على حساب حمولته القرآنية، يمثل تدنيًا بالمفهوم بلغ أخيرًا إلى حد اختزاله في مجرد "الحدود"، أو منظومة العقاب التي يدرك دارسو الفقه الإسلامي الحذر البالغ الذي أظهره الفقهاء بخصوص تطبيقها؛ ومن هنا ما أحاطوها به من الشروط التي تجعل تطبيقها صعباً، إن لم يكن مستحيلاً.

- في رأيكَ، لماذا يستخدم الإسلاميون مفهوم الشريعة ولا يستخدمون المفهوم الصحيح؟

أعتقد أن في الأمر مراوغة، فهم يدركون أن لفظة "الفقه" تخلو من هالة القداسة التي تحيط بلفظة "الشريعة". وغنيٌ عن البيان أن سعيهم إلى إخفاء الفقه (غير المقدس) وراء الشريعة (المُحاطة بالقداسة) يستهدف إضفاء القداسة على رؤاهم الخاصة (التي هي نتاج اجتهادات وميول وانحيازات هي إنسانية بطبيعتها). وإذن فإن السعي إلى إضفاء القداسة على ما هو إنساني، وغير مقدسٍ بطبيعته، هو القصد من وراء إستراتيجية إخفاء "الفقه" وراء "الشريعة".

- هذا التحويل يتم طوال التاريخ الإسلامي..

من جانبي أختلف معك، فالإمام مالك مثلاً، كان معاصرًا للخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، الذي كان واقعًا تحت تأثير ابن المقفع، (نستيطع أن نقول إن ابن المقفع هو المُنظر الإيديولوجي للمنصور). وقد أشار ابن المقفع على الخليفة بضرورة التوحيد القانوني للدولة؛ أي العمل بقانون واحد تخضع له كافة أمصارها، لتكتمل وحدتها السياسية. وطرح عليه فكرة تعميم كتاب "الموطأ" لمالك على كل الأمصار ليفصل قضاتها في المسائل المعروضة عليهم بما ورد فيه. بيد أن مالك قد أبى، بالرغم مما أغروه به من أن كتابه سيكون، على هذا النحو، هو الحجة مع القرآن. وقد إحتج مالك لرفضه بأن "فقهه" نابعٌ من ظروف أهل المدينة وأعرافهم المحلية، وأنه لذلك قد يشق على أهل العراق أو الشام وغيرها. إن ذلك يعكس وعيًا عبقريًا بدخول الإنسان (وعيًا وواقعاً) في بناء وتركيب الفقه؛ وبما يعنيه ذلك من أن الرجل ينزع عن اجتهاده أي قداسة. ولعله يلزم الوعي هنا بأن السياسة كانت هي التي تسعى لفرض القداسة على الفقه لتسوس الناس وتخضعهم به، وذلك فيما كان الفقيه نفسه يرفض هذا التقديس.

تـــــــــــابعونا في الجزء الثاني من الحوار >>

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق