السبت، يوليو 21، 2012

حــوار الدكتور علي مبروك مع جريـدة البـديـل ج2




الدكتور نصر حامد، والتي مرت ذكرى رحيله منذ أيام، اختزل مقاصد الشريعة الخمسة عند الشاطبي إلى ثلاث "العقلانية- الحرية- الاختيار"، بيد أن الدكتور محمد عمارة، عضو اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور، انتقد اخراج الدين من المقاصد.. فما هي رؤيتك؟

أدرك الراحل الكبير نصر أبو زيد القصورَ البيِّن في نظرية المقاصد التي بلغت غاية تبلورها مع فقيه الأندلس أبو إسحق الشاطبي، الذي بدا أنه قد استنبط ما اعتبره مقاصد الشريعة من الجزء الأكثر ضيقًا ومحدودية فيها؛ وهو الحدود. فطالما أن هناك حدًا (عقابيًا كالقطع والرجم) لفعلٍ ما، فإن الشاطبي قد اعتبر أن الحفاظ على ما يمثل هذا الفعل انتهاكًا له يُعتبر مقصدًا للشريعة. فإذا كان هناك حدٌ لشرب الخمر بما يؤدي إليه من فقدان العقل مثلاً، فإن حفظ العقل يُعتَبر مقصداً؛ وهكذا الأمر في بقية الحدود كالرجم (والمقصد حفظ العِرضْ)، والقصاص (والمقصد حفظ النفس)، والقطع في السرقة (والمقصد حفظ المال)، وأخيرًا القتل في حال الردة (والمقصد حفظ الدين). ولكن- وكما تعلم- فإن حد الردة هو حدٌ خلافي، وفيه أراء متعددة ومتباينة بين الفقهاء.

-  للشيخ عبد المتعال الصعيدي رؤية تقدمية وقراءة عصرية لما ورد بخصوص هذا الحد..

هذا صحيح، ويعني أن إخراج حفظ الدين من مقاصد الشريعة يكون أمرًا جائزًا، بحسب طريقة تأسيس المقاصد على الحدودالتي تبناها الشاطبي. إذ يلزم أن يكون الحدُ الذي يتأسس عليه المقصد غير قابلٍ للخلاف، وذلك ما لا يتوفر في حد الردة؛ الذي يستند إلى خبر آحاد، فضلًا عما يبدو من تعارضه مع مبدأ "عدم الإكراه" ذي الطابع الكلي في القرآن. والحق أن جعل المقاصد هي معكوس الحدود قد أحال دون إدراك قيمًا أكثر كلية يفيض بها القرآن كالعدل والمساواة والإخاء والرحمة وغيرها.

-  كذلك أغفل قيمة الاستخلاف واعمار الأرض..

نعم، وهو أحد أكبر المقاصد القرآنية وأكثرها شمولًا وكلية، كما يلزم الإشارة هنا إلى المقصد التحرري الذي ينشعل به القرآن، والدين على العموم؛ وإلى الحد الذي يمكن معه القول أن "التحرر الإنساني" هو أحد المقاصد الكبرى للدين والشريعة. ومن هنا جوهرية ما طرحه "نصر أبوزيد" من وجوب إعادة التفكير في المقاصد؛ وبما يفتح الباب أمام إضافة مقاصد أخرى تحظى بتوافق أهل الأديان كافة، بل يتوافق عليها البشر على العموم، بحسب ما انتهت بهم إليها تجربتهم.

- قد يفهم البعض أنكَ ضد الدين وحمايته..

إذا كان يمكن الحديث عن نوعين من حفظ الدين وحراسته؛ يتحقق أحدهما عبر القسر والإكراه الخارجي، وثانيهما هو الحفظ عبر الاقتناع الداخلي الحر، فإن النوع الأول منهما هو الأقل شأنًا من غير شك. بل أتصور أن الحفظ عبر الإكراه والقسر يمثل تهديدًا لوجود الدين، وليس حفظًا له؛ وأعني من حيث يصبح وجود هذا الدين قائمًا على محض النفاق الذي حمل عليه القرآن بقوة لما يمثله من خطر داهم على الدين. وفي المقابل، فإن الحفظ الحقيقي للدين هو ما يكون عبر فعل الاختيار والإقتناع الحر؛ الأمر الذي يترتب عليه أن فعل الاختيار (الذي هو- بحسب الأصوليين- فعلٌ تأسيسي في الإسلام، لأن "إيمان المقلد أو من لا يختار لا يجوز") لا ينقطع بدخول المرء الإسلام، بل يظل قائمًا يجدد به المرء إيمانه. ولعل انشغال الإسلاميين بالخارجي والحرفي من الدين على العموم، هو ما يفسر انحيازهم للحفظ الخارجي للدين.

- في كتابك "ما وراء تأسيس الأصول" انتقدت الشافعي، كذلك الدكتور نصر حامد وجه انتقادًا إلى نفس الفقيه، وقد أصابكما جراء ذلك الكثير. لماذا الشافعي؟ ولماذا يتحسس السلفيون "مسدساتهم" إذا ما جرى انتقاد الشافعي تحديدًا؟

الشافعي أحدث تحولًا خطيرًا في مسار التفكير الفقهي في الإسلام، وذلك بحسب ما تكشف عنه قراءة تجربة التفكير في الفقه قبل الشافعي؛ والتي كانت تجربة تتميز بالثراء والخصوبة والانفتاح على الإنسان (وعيًا وواقعًا وتاريخاً)، سواء كنا نقصد فقه المدارس أو فقه الصحابة أو التابعين، وأنا هنا معنيّ بمنهجية الفقهاء ورؤيتهم، وغير معني بأحكامهم ومذاهبهم. هذه التجربة كانت تضع التاريخ، والعقل، والأعراف والتقاليد، والرأي موضع الاعتبار. ثم جاء الشافعي ومارس ضروبًا من التضييق على هذا الانفتاح. ولعل ضِيق السلفيين بنقد الشافعي يأتى من هذا التضييق الذي مارسه من جهة، وربما أيضًا من احتفائهم بابن حنبل الذي يعتبر الشافعي أستاذَا له.
ولعل تعالي الشافعي بالسنة إلى مرتبة الوحي، كالقرآن، يندرج في إطار هذا التضييق؛ حيث لم تعد السنة عنوانًا على تجربة يمكن الاسترشاد بها، بل نصًا واجب الإتباع؛ وهو ما يتوافق مع بنية المزاج السلفي الذي تعد آلية تحويل "التاريخ" إلى "نص" أحد آليات اشتغاله الأثيرة. وضمن هذا الإطار نفسه يندرج تصوره للإجماع على أنه من قبيل السنة غير المحكيِّة؛ وبما يعنيه ذلك من الإلحاح على تحويل التاريخ إلى "نصٍ" أيضاً.

-   بمعنى أنها نصوص افتراضية...

سمها ما شئت، فالشافعي لا يتصور أن يفكر أحد في الفقه بعيدًا عن النص، حتى الإجماع الذي قد يتبادر للذهن أنه إجماع الناس على ما يرون فيه الصلاح، هو عنده إجماعٌ على نصٍ للنبي، لكنه غير مرفوعٍ إليه بالرواية. وفي الجملة فإن الشافعي لا يرى إمكانية للتفكير في الفقه إلا من باب "الخبر" أو النص. ولسوء الحظ، فإنه كان يرسخ بذلك لما سيكون آلية تفكيرٍ مهيمنة في الثقافة العربية حتى اليوم؛ وأعني بها آلية التفكير بأصلٍ أو نموذجٍ جاهز والتي تكاد تكون مسؤولة عن مأزق غياب الإبداعية العربية.

يذكرني حديثك عن دور الواقع، بمقولة الدكتور حسن حنفي "لا تنطق السماء إلا بعد حادثة في الأرض"...

الإنسان (وعيًا وواقعاً) هو جزء أصيل في تركيب الوحي الإلهي ذاته، وعلينا أن نتأمل في دعاوى الإسلاميين التي تفيض بالنفي الحاسم لأي دورٍ للواقع أو الإنسان أو التاريخ في عملية المعرفة بالوحي وفهمه. إن ذلك يكشف عن مفارقة إعتبار الله للإنسان وإدخاله له في تركيب وحيه، وذلك في مقابل إهمال الإسلاميين له، وإخراجه من عملية المعرفة بالوحي حين لا يتصورونه إلا تنزيلًا متعاليًا لابد من فرضه على الناس، ولا يتسع لهم (وعيًا وتاريخًا وواقعاً).
*********************************************************
-  في ضوء متابعتك، ما تقييمك لأداء اللجنة التأسيسة لكتابة الدستور بخاصة في مسائل حريات العقيدة والاعتقاد؟

ما رَشَحَ عن اللجنة التأسيسية شيء مقلق، ابتداءً من مرجعية الأزهر في المادة الثانية؛ حيث كنا نفاخر ونتباهى بخلو الإسلام من الكهنوت، إلا أن الإسلاميين في القرن الحادي والعشرين قرروا أن يجعلوا من الأزهر مؤسسة كهنوت. وما يقلق أيضًا، اقتراح أعضاء حزب النور بسيادة الله، بدلًا من الشعب، مستعيدين بذلك فكر الحاكمية بكل ما ينطوي عليه من مخاطر مُحدقة. ولعل مما يقلق، أيضاً، ما يبدو من عدم السماحة تجاه ممارسات جماعات لها معتقداتها الخاصة، مع أنه لا ضير في أن تمارس أي جماعة بحسب ما تعتقد طالما أن ذلك لا يمثل تهديدًا لقواعد النظام العام في المجتمع.

-  ما  الأكثر الأشياء التي تقلقك تحديدًا؟

أكثر ما يُقلق هو الروح التي تتخفى وراء تلك الممارسات والأفكار؛ وأعني روح التضييق والاستبعاد التي تحضر بقوة، وتطرد روح الاستيعاب والتمثُّل التي ينبغي أن يتحلى بها واضعو الدساتير.

- في ضوء الاستيعاب والاستبعاد، كيف تقرأ رفض السلفيين لوجود نائب قبطي؟

الجماعات الإسلامية عمومًا، تجرنا إلى لحظة تاريخية يتحدد الفرد فيها بهويته الدينية، وليس على كونه مواطنًا، في حين أن الفضاء الذي نعيش فيه يرفض ذلك. وهم يقولون "ولاية غير المسلم على المسلم لا تجوز"، والحقيقة أن مبدأ الولاية ذاته مبدأ رعوي، ومتعلق بالمجتمعات الأبوية، والتي جاء الإسلام ليهدم نظامها ويقوضه. ففي القرآن نجد نبذًا وتفكيكًا للثقافة الأبوية بإعتبارها مصدر التكلس والثبات، ونقض الأبوية مقصد كليّ للإسلام. وبدلًا من أن يَهزم الإسلامُ الأبويةَ، كانت هي التي هزمته، لسوء الحظ. وبدلًا من أن يخلخلها، كانت هي التي تخللت السياق الغالب في الإسلام.

- هنا، أتذكر مقولتك: القبليّة ستعيش حتى في دولة الحداثة..

هي الآن حية، وتعيش، ولها نمط ثقافي، قائم على الترديد والتكرار، ومنظومة اجتماعية قائمة على التعصب والفخر، ومنظومة سياسية قائمة على البطريركية أو سلطة "الأب"، ومنظومة اقتصادية قائمة على النشاط الريعي الخراجي. وإذن فإنها- وبكل تجلياتها- البنية الغالبة على المجتمع.

-  بخصوص تجليات الأبوية على الخطاب السياسي، نلاحظ استخدام الرئيس مرسي استعارتي "أهلي وعشيرتي"..

"يضحك"، لدي مقال أرجأت نشره حول هذين المفهومين، وهما يحيلان إلى بقايا عالم عشائريات ما قبل الحديثة. بالطبع يجب أن نحمد للرجل رغبته في التقرُّب من الناس، بعد فترة بدا فيها أن السلطة قد تعالت عن الناس وانفصلت عنهم. لكن المشكلة ليست في حسن النية، وإنما في الأنساق الفكرية والتحيزات الكامنة وراء الكلمات والمقولات، والتي هي دائمًا مشحونةٌ بدلالاتٍ كثيفة يستحيل عزلها عنها.

- إلى أي مدى تتحكم هذ التحيزات في الإسلاميين؟

يخايلنا الإسلاميون الآن بأنهم يضعون قدمًا في العالم القديم، والأخرى في العالم الحديث، وأنهم يسعون إلى جر العالم القديم نحو الحديث. ولكن المتحقق يكشف عن أن العكس هو الحاصل.

-  نصر حامد وفرج وفودة وعلي مبروك، آمنوا بالحوار العقلاني المتكافئ حلاً.. إلا أنهم تعرضوا لأشكال مختلفة من الاضطهاد. لماذا يرد الإسلاميون على الكلمة بالرصاص؟

الإسلاميون يتمترسون وراء بعض الشعارات التي تمنعهم من الدخول في أي حوارات، لأن الشعارات تكون موضوعًا للترديد والتكرار، وليس المناقشة والحوار، وذلك فضلًا عن امتلاكهم لصورة مثالية "يوتوبية" عن الماضي يقيمون عليها كامل بنائهم الإيديولوجي، ولا يريدون لها أن تكون موضوعًا لاختلاف الرؤى والمنظورات، لكي لا يتحطم هذا البناء. ويُضاف إلى ذلك أنهم يضعون المختلفين معهم في خانة الأعداء المتآمرين الراغبين في هدم الإسلام؛ وبما يعنيه ذلك من استئثارهم- حسب هذا التصنيف- بدور حُماة الإسلام. وهكذا يحيلون الأمر إلى مواجهة بين أعداء الإسلام وحُماته؛ وهي مواجهة لا مدخل فيها للحوار، بل للاحتراب والقتال.
تم النشر في جريدة البديل بتاريخ 21 يوليو 2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق