الخميس، يناير 10، 2013

تأملات فكرية في المشهد المصري الراهن




رغم أن مصر كانت‏,‏ قبل مجئ الأوروبيين بحداثتهم إليها‏,
 تشهد تطوراً بطيئاً بلغ ذروته في السعي إلي الاستقلال عن السلطنة العثمانية علي يدي علي بك الكبير عند أواسط القرن الثامن عشر تقريبا,
فإن أحداً لا يجادل في أن سؤال التغيير قد انبثق زاعقاً في مصر مع تعرضها للقصف بالحداثة الأوروبية التي جاء بها جيش نابليون مع بزوغ شمس القرن التاسع عشر.

ولقد كان هذا المجيء الأوروبي حاسماً, إلي حد إمكان القول إنه لولاه, لما كان لسؤال التغيير أن ينبثق علي هذا النحو من الحدة في مصر.
وبالطبع فإن ذلك يعني أن انبثاق سؤال التغيير علي النحو الذي تبلور به مع مطلع القرن التاسع عشر, لم يكن نتيجة تطورات ذاتية تعتمل في قلب الواقع
( ولو كان اعتمالها بطيئا),
بقدر ما إن شروطا خارجية ضاغطة كانت هي التي فرضته بقوة لا مهرب منها.
ولعله يلزم التأكيد علي أن حصول التغيير كنتاج لتطورات ذاتية بالأساس لا يعني حصوله في استقلال أو انعزال كامل عن كل مؤثر خارجي,
بقدر ما يعني أن الذاتي لا يخضع لسطوة الشرط الخارجي ويتحدد به,
بل يقوم بتوظيف هذا الشرط الخارجي لحسابه; 
وإلي حد تحويله إلي عنصر في بنائه.
ولابد هنا من التأكيد علي أن الطريقة التي ينبثق بها فعل التغيير إنما تحدد طبيعته ونظامه ومضمونه.
إذ فيما يئول انبثاق فعل التغيير كنتاج لتطورات ذاتية بالأساس, إلي أن يجعل منه حركة شاملة في العقل والمجتمع والدولة جميعا,
 فإن انبثاقه كضرورة فرضها الاصطدام مع الخارج قد جعل منه حركة تدور حول الدولة بالأساس, ولا تتعلق بكل من المجتمع والعقل إلا علي نحو هامشي.
 ولقد كان هذا الانبثاق الأخير هو المحدد الأساسي لمسار التغيير في مصر;
وبمعني أنه قد راح- ومنذ البدء- ينبني حول الدولة,
 وعلي نحو سياسي وإجرائي خالص.
وعملياً, فإن ذلك كان يعني أن التغيير هو فعل الدولة ومطلبها, وأن المجتمع هو مجرد الموضوع الذي سيجري عليه التغيير, وليس الفاعل المبدع له.

 ولقد كان ذلك ما عبر عنه, صراحة, أول من نطق بخطاب حول التغيير في مصر; وأعني به المعلم يعقوب الذي لابد أن يدهش المرء لوعيه الدقيق بطبيعة التغيير وآلياته في تلك اللحظة المبكرة عند مطلع القرن التاسع عشر.
 فقد مضي الرجل يحدد للتغيير في مصر مساره قاطعا بأن تغييراً في مصر لن يكون نتاج أنوار العقل, أو اختمار الآراء الفلسفية المتصارعة, ولكن تغييراً تجريه قوة قاهرة علي قوم وادعين جهلاء.
 وهكذا فإن وعي يعقوب
- الغريب علي رجل يعيش في مصر في تلك اللحظة المبكرة-
بأن هناك التغيير, بما هو فعل العقل, لم يمنعه من إدراك حقيقة أن التغيير في مصر لن يكون إلا فعل القوة التي ستجسدها الدولة;
 سواء كانت دولة الجنرال( الذي هو بونابرت في حينه), أو دولة الباشا لاحقا.
وإذ تحدد للدولة موضع الفاعل الرئيس للتغيير,
 فإن ذلك قد جعل منه مجرد ممارسة ذات تمركز حول الخارج وحده;
علي أن يكون مفهوما أن الخارج, هنا, لا يتعلق فحسب بأوروبا كمصدر خارجي تستورد منه الدولة أدوات التغيير, بل وبالمجتمع الذي وقف التغيير الذي تجريه الدولة عند سطحه الخارجي أيضا.
إذ يبدو للملاحظ أن الدولة لم يشغلها من أوروبا إلا المنتجات الملموسة الصلبة لحداثتها, سواء التقنية أو السياسية
( ولم تنشغل بما يؤسس لهذه المنتجات من بنيات عقلية ومعرفية واجتماعية),
كما لم يشغلها من المجتمع, بالمثل, إلا مجرد تغيير قشرته الخارجية السطحية,
 أي واقعه البراني الملموس
(ومن دون أن تنشغل أيضا بما يؤسس لهذه القشرة من أبنية ذهنية وقيمية كامنة). 

وبالطبع فإن ذلك مما يؤكد أن مركز التغيير لم يجاوز,
 منذ ابتداء الانشغال به في مصر, حدود السطح الخارجي إلي ما يرقد تحته أبدا;
 سواء تعلق الأمر بأوروبا كمصدر للتغيير, أو بالمجتمع المصري ذاته, كموضوع لهذا التغيير; وبما يئول إليه ذلك من أن الأساس الفلسفي النظري الكامن,
 الذي يؤسس لكل من التقدم الأوروبي من جهة, والتأخر المصري من جهة أخري,
 لم يكن موضوعا لتفكير الدولة أو انشغالها.
وفي كلمة واحدة, فإنه قد كان الانشغال الذي لم يجاوز فيه فعل التغيير حدود السطح أبدا.
وليس من شك في أن ذلك يرتبط بأن الدولة لا تنشغل إلا بما هو قابل للتحقق البراني الملموس, ولا يمكنها التعويل- لذلك- إلا علي المنتج النهائي الجاهز القابل للمعاينة والقياس. إنها- وإذا جاز التمثيل- تشتغل بمنطق قطف الثمرة,
 وليس أبدا تقليب التربة وغرس الثمرة.
وإذن فإنها, وفي كلمة واحدة, لا تنشغل بالتأسيس العقلي الجواني,
بقدر ما تنشغل بالملموس المادي البراني.
 وغني عن البيان أن هذا الدور المركزي للدولة قد حدد الطريقة التي تعامل بها الآباء المؤسسون لما يقال انه الفكر العربي الحديث
( الذي يتحكم في بناء ما يقال إنها التجربة العربية الحديثة),
 لا مع حداثة أوروبا فحسب, بل ومع التراث السائد في المجتمع أيضا.

فقد راحوا يمايزون في الحداثة بين مكونين;
أحدهما براني مسموح باستيراده ونقله, ويتمثل في منتجاتها الجاهزة التقنية والسياسية,
 والآخر هو مكونها الجواني المتمثل في أساسها النظري والفلسفي, والذي جري التأكيد علي لزوم الابتعاد عنه وعدم التعرض لعدواه.
وعلي نفس المنوال, فإنهم ميزوا في تراث المجتمع بين ذات المكونين البراني والجواني, ولكن موقفهم بخصوص المقبول والمرذول من هذين المكونين في التراث قد اختلف عما كان عليه الحال في الحداثة.
 فالبراني في التراث قد صار هو المرذول علي عكس ما عليه الحال في الحداثة,
وأما الجواني فيه( وهو ما يتعلق بالبنية الذهنية المهيمنة) فهو المقبول علي عكس ما عليه الحال في الحداثة أيضا.
وتبعاً لذلك, فإن الصيغة التي جري اعتمادها للتغيير قد انبنت علي الجمع بين ما هو مقبول من التراث والحداثة معا; وأعني بين البراني من الحداثة وبين الجواني من التراث.
وهكذا جاءت الحداثة بمنتجاتها الجاهزة الجديدة, وحضر التراث بفكرته التقليدية, والجاهزة أيضا, وكان مطلوبا منهما أن يسكن الواحد منهما إلي جوار الآخر في سلام.

ولأن هذين المكونين لم يكونا مجرد مقولتين فارغتين,
 بل كانت لهما حواملهما الاجتماعية الحية,
 فإن هذه الحوامل كانت مجبرة أيضا علي أن يسكن الواحد منها بجوار الآخر, وكانت الدولة هي التي تفرض عليهما هذا التجاور الساكن.
 ومع تراخي قبضة الدولة, فإن صيغة التجاور الساكن لابد أن تنفجر, علي نحو ما حدث في العراق, وما يحدث في مصر الآن.
 ويبقي المستقبل مرهونا بالقدرة علي تجاوز هذا التجاور الساكن إلي ما يسمح بالتفاعل الخلاق بين المكونات الفكرية والاجتماعية, أو أن تستعيد الدولة قبضتها, بعد تعافيها, ويعود الأمر إلي ما كان.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 10/ ينايـــــــر/2013







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق